الشيخ نوح علي القضاة

mainThumb

20-12-2010 02:17 PM

بكيتهُ عند حمله على الأكتاف بالأمس  كما بكيتُ والدي عند وفاته ،و حنّ قلبي و بكى لفقد هذا العالم العلم ،أخذتُ أنظر في وجوه الناس الذين أتوا من كل مكان، وكأن الأردن قد أرسل كل أبناءه هناك ،لم يبق أحد إلا و ترحم عليه ، لم يبق أحد إلا و استغفر له ،لم يبق أحد إلا وطلب له الرحمة و سأل له النجاة ،فلعلها عاجلُ بشرى المؤمن و لعلها بشارة الخير بالجنة ،كيف لا و هو الذي لم يبع دنياه بعرض من الدنيا ، كيف لا و هو الذي كان يُفتي لا رغبة في منصب و لا طمعا في جاه و لا حُبا لمغنم ،بل  كان يقفُ كالطود الشامخ ليقول كلمة الحق التي ما زادتهُ الا قُربا من الله و قُربا من الناس ،وكأني بذلك القائل الذي نظر الى جنازة أحد التابعين الصالحين  فقال : (هذا هو المُلك..... )  .

 

من القصص التي كنا نسمعها عن شيخنا نوح رحمه الله بأن والده (الشيخ علي رحمه الله) كان قد أخذ العلم الشرعي في دمشق و تتلمذ هناك على يد مشايخ و علماء و كان مثالا في التقوى و الورع وإذ به ذات ليلة يرى في منامه أنه  يبول قرب المنبر ،ففزع الشيخ من هذه الرؤيا و ذهب الى شيخه يسأله و يقص عليه الرؤيا و اذ بذلك الشيخ يبتسم و يقول له : أبشر يا بُني فانه إن شاء الله ستكون ذريتك  من العلماء ، و تشاء قدرة الله عز وجل أن يكون من نسله أربعة علماء أفذاذ فالشيخ هود حفظه الله الذي تخرّج على يديه في قرية عين جنا أكثر من مئة و خمسين حافظا لكتاب الله  تعالى وكان من الذين تعلموا العلم الشرعي في الشام أيضا ،ثم الشيخ محمد رحمه الله الذي تتلمذ في دمشق و كان عالما فقيها متمكنا من اللغة و الفقه و كان يحفظ أكثر من بضعة الاف بيت من الشعر، ثم كان الشيخ نوح رحمه الله الذي درس في دمشق و تتلمذ على يد مشايخها ليصبح علما من أعلام الاردن و فقهائها ، وكان أيضا الشيخ زكريا حفظه الله الذي درس العلم الشرعي و تخصص فيه ،فكانت ذرية طيبة مباركة و كأن الرؤيا قد تحققت  و أصاب الشيخ في تفسيره ، ثم تشاء قدرة الله أن يكون معظم ابناء الشيخ نوح من أصحاب العلم الشرعي الذين نسأل الله أن ينفع بهم كما نفع بوالدهم.

 

لن أحدثكم عن قصص الورع التي كنا نسمعها عنه أثناء عمله مفتيا للقوات المسلحة الأردنية ،أو قاضيا للقضاة أو في غيرها من المناصب التي لم يطلبها بل كانت تأتي إليه طائعة فيزهد فيها فتأتيه، ثم يزهد ُ فيها فتأتيه ،فما كان يرضى أن يستخدم سيارة الجيش أو الحكومة لزيارة خاصة أو لعمل خاص و كان يرى في ذلك فقها خالصا و منهجا سويا يُقربه من الله و يبعده عن الشبهات، تلك القصص التي جعلته حبيبا قريبا من الله قريبا الى الناس ،و لن أذكركم كيف وقف بقوة وجرأة في الفتوى التي أفتاها قبل أكثر من عام و المتعلقة باتفاقية (سيداو) و التي ما زادته من الله إلا قربا و من الناس إلا حبا و تكريما و إعجابا ،و كأنها قوة الحق التي ما زادته مع الأيام إلا صلابة و جرأة و تمكن .

 

كان يتمتعُ بتواضع جم نادرًا ما تجده عند أصحاب المناصب العليا ،فلقد أردتُ أن يكون على رأس جاهتي رحمه الله قبل أكثر من ستة عشر عاما وقبلها بيومين زرته في منزله و طلبتُ منه ذلك، و كنت أخشى أن يعتذر مني لصغر سني في حينها و بساطة أمري ، فما كان منه إلا أن استقبلني استقبالا خجلتُ منه و أكرمني و جلس معي و نصحني و قال كلاما طيبُا في جاهتي ما زلت أتذكره و أجد أثره الطيب  حتى هذه اللحظة، ثم لا أنسى أنني  زرته قبل أربعة أشهر في شقته المتواضعة في عمان و هو الذي كان يستطيع أن يبني القصور و يركب أفخم السيارات ،ولكنه قد نزع حب الدنيا من قلبه فجعلها في يديه و لم يجعلها في قلبه، و كان يُحدثني حينها  عن صفتين للنائب الذي يُريد و الذي يجب على الناس انتخابه : فكان أولها أن يكون مشهورا بالخلق و الصفات الحميدة و التدين ثم ان يكون قويا مؤثرا يستطيع إيصال مظالم الناس و الدفاع عن حقوقهم بجرأة و قوة و أن لا ينساق الناس خلف الذين يحبون أنفسهم و أصحاب المطامع الشخصية الذين يفرقون الناس و لا يجمعونهم ، وكنت أتذكر عندما أراه ذلك البيت من الشعر الذي يقول :


ملئى السنابل ينحنين تواضعًا   ...............    و الفارغاتُ رؤوسهنّ شوامخُ  .


رجعت نفس  الشيخ نوح هذه المرة الى بارئها راضية مرضية ،بعد أن غرست الغرس الصالح و قدّمت المثل الرائع و الراقي و جسدت معاني قل نظيرها كي تظل هامة الإنسان المسلم عالية ،و أحسبه قد مات قرير العين فلقد ظل يقول كلمة الحق و لا يخشى في الله لومة لائم ،فتحول الى نموذج رائع للفقيه المناضل في سبيل الله الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر الذي يستطيع ان يُغير وأن يكون ايجابيا يقدم الغالي و الرخيص من اجل هدفه و فكرته ،القريب من السلطان دون أن يتأثر أو يتغير أو يتلون ، رحمك الله  أيها الشيخ و أحسن الله عزائنا فيك لأنك فقيدنا جميعا في مماتك يا من كنت لنا جميعا في حياتك .

م. غيث هاني القضاة

ghaith@azure-pools.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد