الاتجاه المعاكس يعاكس أدب الحوار

mainThumb

10-12-2011 09:40 PM

يقصد بالحوار تبادل الآراء لمناقشة قضية ما بين طرفين أو أكثر بهدف تصحيح كلام واظهار حجة واثبات حق ودفع شبهة ورد فساد من القول والرأي, والغاية منه هو اقامة تلك الحجة ودفع تلك الشبهة وذلك الفاسد من القول والرأي.

فهو والحالة هذه تعاون من الأطراف المتناظرة على معرفة الحقيقة والتوصل اليها ليكشف كل طرف خفي منها على محاوره, والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول الى الحق, أو ايجاد حل وسط يرضي الأطراف المتحاورة, أو التعرف على وجهات نظرهم, أو البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة من أجل الوصول الى نتائج أفضل وأمكن.

فالتعصب بالرأي والنظر بعين الازدراء والاحتقار لكل طرف اتجاه المحاور الآخر يؤدي الى ظهور خلاف حاد سرعان ما يكون مآله الى عدم الاتزان في الانفعالات مما يؤدي الى العنف في التصرفات , وهكذا تكون المقابلة العنف بالعنف , وتزداد الأمور سوءا فيكثر عندها المغالطات التي تفسد القلوب وتهيج النفوس وتولد النفرة وتنتهي بعدها الى ما لا يحمد عقباه من اثارة الضغائن والحقد بين المشاهدين لمثل هذه البرامج, وحتى تصل الى درجة القطيعة أحيانا لأن كل مشاهد سيوافق أحدهم وذاك يكون حسب درجة الاقناع التي يتمتع به كل منهم. وهذا لعمري ما نراه اليوم بين الأخوة في البيت الواحد أو بين الأصدقاء أو حتى بين الدول العربية الشقيقة.

 ومن هنا نرى أن مثل هذه البرامج مشبوهة تهدف لاثارة الفتنة والكراهية بين الشعوب مما ينجم عنه ظهور الاحتجاجات والاعتصامات عند السفارات والشوارع العامة وكل يبدأ بعدها بشتم الآخر وهذا ما تريده تلك البرامج لتحقيقه لصالح جهة مأجورة ما.
نحن نؤمن كل الايمان أن الاختلاف في وجهات النظر هو أمر حضاري وظاهرة صحية من الدرجة الأولى , ووقوع الخلاف بين الناس أمر لا محالة منه وهذا بالطبع  نراه  جليا قد حل في مختلف العصور والأمصار, وهو سنة الله في خلقه فهم مختلفون في السنتهم وطباعهم ومدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ولا نشك في ذلك قيد أنملة, فكيف بهم لا يختلفون في آرائهم! ولهذا جعل الله للمخطئ في اجتهاده أجرا  وللمصيب أجران تشجيعا للنظر والتأمل في الفكر.
ان ما نشاهده من برامج الاتجاه المعاكس وما يدور فيها من حوار هو ضرب من العبث وعدم الالتزام بالقول الحسن بين المتحاورين وطعن وتجريح وسخرية واستهزاء واستفزاز لكي تثار الحمية الجاهلية عند كل طرف فتظهر عندها علامات التحدي وارتفاع الأصوات وانتفاخ الأوداج .
اني لأرى من الأولى والأهم أن يبدأ الحوار بنقاط متفق عليها وأن لا يستفتح من يدير الحوار بنقاط الخلاف وموارد النزاع الذي لا يؤدي الا الى تضييق ميدان الحوار وجعل أمده قصيرا مما يحفز كل من المتحاورين للرد على من يحاوره بقسوة متتبعا لثغراته وزلاته , وهذا يحث المحاور لابراز وتضخيم تلك الهفوات التي يقع بها أي متحاور ويكون بالتالي همهم التنافس في الغلبة أكثر من تنافسهم لتحقيق هدف الحوار. ومن الملاحظ أيضا أن ما يدور من حوار يشير الى جدل عقيم ينتهي دون الوصول الى ما هو مطلوب لتوصيله الى المشاهد, وهكذا يدب الخلاف ويصل أوجه , وتدبر عندها المكائد وينعت كل منهم الآخر بالشتائم غير الأخلاقية التي لا لزوم لذكرها.
من هنا نتساءل عما يهدفه الاتجاه المعاكس, أيريد قطع العلاقات بين الدول الصديقة! أم التنفيس عن الاحباطات التي تراود المعارضين في كل دولة ! أم تمزيق عرى التواصل بين الأشقاء! أم بالخروج عن المألوف لكي يقال أن هذه هي الديمقراطية بعينها ! أم لكسر حاجز الخوف والتمرد على الأنظمة السائدة ! أم لخرق كل قواعد اللعبة السياسية وجميع السقوف والخطوط الحمراء ! أم لفتح ملفات مسكوت عنها منذ أزل بعيد ! أم لاثارة الشعوب ضد حكامها وكشف المستور منها ! أم لحث الشعوب للبدء بثورات ترمي  لنيل حقوقهم المغتصبة ! أم بارسال رسالة ايقاظ الوعي لدى الجماهير وتعريفهم بحقائق هم يجهلونها ! أم للفت الأنظار الى تلك القنوات الفضائية التي تدب سمومها لتحريض الشعوب للثورة والاحتجاج على ما تكشفه من ملفات ساخنة ! أهذه هي الديمقراطيه التي ينشدوها !
 ان مثل هذه البرامج تدخل الشعوب في حقول ألغام هم بغنى عنها , وهذه برامج اثارات وانفعالات وصراخ دائم لا تمت بصلة الى أي أدب من الحوار يعوزها الالتزام الحسن في القول والمجادلة اضافة الى عدم التكافؤ بين المتحاورين, وهذا يذكرني بقول الشافعي رحمه الله " ما جادلت عالما الا وغلبته وما جادلني جاهل الا وغلبني", ويقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز " وجادلهم بالتي هي أحسن" ويقول في موقع آخر "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك" ,  وأنتم تعلمون أن المثقفون هم الذين يغيرون وجه التاريخ لا بالصراخ والشتم واثارة الفتنة والقلاقل , بل بالمجادلة الحسنة والمقنعة ,  ولدي قناعة بأن صاحب الصوت العالي لم يعمله الا لضعف حجته وقلة بضاعته فيستر عجزه بالصراخ. انها حقا تعاكس وتغاير حدود الأدب واللباقة والذوق الرفيع عداك عن زعزعة الأمن القومي ونشر الفتن والعداوة والخصام بين الشعوب. وأنا أتساءل أيضا هل الاستطالة والاسترسال والمقاطعة في الحديث والمخاطبة بعبارات غير لائقة واستخدام الأساليب غير المهذبة أحيانا بعبارات مختزلة واشارات تجريحية  تقود كل من المتحاورين والمشاهدين الى حسن الاستماع وتحسين النوايا ومعرفة الحقائق عن الملفات وكيفية تصويبها ووضعها في المسار السليم !
ان الانسان بطبيعته وفطرته ميال الى الحوار والحاجة اليه مطلب وضرورة ملحة ولكن بالتي هي أحسن , فالطابع التجريحي في السيرة الذاتية للمحاور والتعالي وحب الظهور على الغير يبعد المتحاورين عن الجادة والتفاهم, وهذا ما نراه في مثل هذه البرامج . فالديمقراطية تنادي بحرية التعبير ضمن حدود الأدب وباحترام آراء الآخرين لا بالتحدث كل على هواه بل انها محكومة بقوانين وتشريعات لا يمكن التخلي عنها , فلا نرى على سبيل المثال مواطنا موجودا في الدول الديمقراطية الغربية يستطيع أن يتكلم عن محرقة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية لأن التطرق لهذا الموضوع يعاقب صاحبه بعقوبة السجن.

فحرية الرأي لا تعني تجاوز الحدود الأخلاقية المتعارف عليها ضمن منظومة القيم , ولا هي عملية انتقامية من جهة ما أو فرد ما بذاته وذلك باستخدام صيغ التشهير والتشويه وتحريف الحقائق لمجرد الاختلاف مع الطرف الآخر تحت مسمى الحرية في التعبير أو النقد كما يحصل هذا في برامج الاتجاه المعاكس ظنا من مقدمه ومشاركيه بممارسة حريتهم وحقهم الشرعي في ذلك. والمتابع لهذه البرامج يخلص الى أنه ليس هناك اجماع مطلق على أي حقيقة من الحقائق التي تذاع الا بشكل نسبي يمثل طبيعة تكوين البشر ومجتمعاتهم, وثمرة الحوار في النهاية تكاد تكون معدومة بين المتحاورين لأن كل منهم يدافع عن رأيه ,  فتخرج منها بلا غالب أو مغلوب.

ان حرية التعبير تكون في غاية الرفعة حينما تحكمها معايير أخلاقية نبيلة تحترم الآخر وتعمل من أجل الاصلاح  واستخلاص العبر وتجعل الحقيقة ملك للجميع. فاذا تعارضت الأفكار المطروحة وما يدور من نقاش يمس الأنظمة مع حيثيات الحدود الأخلاقية , فعلى المشرفين القائمين عليها حجب ذلك وليس الهدف هذا من قبيل تكميم الأفواه بل بالالتزام بأدب الحوار لا معاكسته والوصول الى حد التناغم, وكل حر ما لم يضر.

E.mail: mohdq2001@yahoo.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد