مصارع الرجال تحت بروق الطمع

mainThumb

07-02-2012 01:15 PM

يسرني أن أكتب عن حكمة طالما تداولها حكماء السلف والخلف والتي تشد الأذهان , وتعكس واقع ما نشاهده ونسمعه في هذه الأيام عن كثرة أهل الطمع والحقد على بعضهم البعض , وكثرة ملفات الفساد المالي التي طالت معظم أجهزة الدولة , كما نسمعه ونقرأه على صفحات الصحف المحلية والالكترونية يوميا , نتيجة طمع بعض من المسؤولين في تلك الأجهزة لكسب ما تطال يداهم , ظنا منهم أن ما هو تحت مسؤوليتهم هو ملك لهم , حتى وصلوا الى درجة التخمة , وأعمت الأموال أبصارهم وأحرفت مسيرتهم المؤتمن عليها عن جادة الصواب , مما أدى بهم في النهاية الى طريق الهلاك . 

فالطمع سجية أخلاقية دنيئة ومرض سلوكي خطير مفسد لقلب الانسان ولبه , يودي صاحبه في انواع المهالك , ويتسبب عنه أنواع المفاسد , وتكون آثاره وخيمة على الفرد والمجتمع على حد سواء , وهو من أشد القبائح لدى العقل والشرع , وعظيم الخطورة على انسانية الانسان,  فيغريه ببريقه الزائف ويؤدي لخسارته في النهاية , ولهذا يجب الحذر من هيمنته وتغلبه على النفس . 

فالطمع يجعل أهل المناصب الطماعين في آخر الزمان فقراء , لأن له بروقا تبرق أمام العيون تخطف أبصارهم وألبابهم , فيروا أسهمهم قد ارتفعت , ومحفظتهم قد انتفخت  , وشهيتهم قد تفتحت للمخاطرة فيندفع عندها كل منهم لارتكاب المحرمات , وتشتغل مراوح الطمع في رأسه , وتشتعل في داخله وتشب عليه وتنفخ رتقه كما نفخت محفظته , وقد أعماه الطمع عن تقدير المخاطر وزين له سوء عمله مرآة حسنا , وبعد مرور من الزمن , ينكشف ما جنت يداه فيقع في الفخ , وتصيده يد العدالة ويذهب طمعه ولا يستفيد منه الا العذاب والعقاب في الدنيا والآخرة . ولذا فان الطمع كله شر , فاذا جاء المسؤول باب من أبواب الطمع فليحاول اغلاقه بباب من اليأس . 

ان من يطمع بأخذ اموال الناس بغير حق بسبب المنصب الذي استلمه سيعيش في حياة تعيسة وسوء العاقبة والمنقلب السيء الذي ينتظره يوم الحساب , وهذا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يحذر الأمة قائلا " اياك واستشعار الطمع , فانه يشوب القلب شدة الحرص ويختم على القلوب  بطبائع حب الدنيا , وهو مفتاح كل سيئة ورأس كل خطيئة وسبب احباط كل حسنة ", وهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يصيب كبد الحقيقة عندما قال " ما الخمر بأذهب لعقول الرجال من الطمع " , فهي صفة سيئة يجهل من يتحلى بها ضررها ويبرر التشبث بها وهو لا يدري بأن الطمع ربما يجره للتحول من مجرد اعتباره اياها تصرفات عادية الى القيام بتصرفات أخرى تؤدي به الى ظلم الناس وسلب حقوقهم .


ان الطمع كالسراب الذي يلهث وراءه صاحبه ليجني طائل الأموال وهو لا يعلم بأن وصوله اليه سيكون بالفعل سرابا لا يحصل منه الا الندم والخسران المبين , فالطمع لا يعترف بأي شيء جميل بل يسرق كل شيء جيد وكل شعور حسن فيكون الانسان والحالة هذه غني من الخارج وفقير من الداخل لما لديه شعور بالنقص وسعيا وراء وساوس الشيطان في طلب المزيد , والأمثلة كثيرة في هذه الأيام فترى ما يشعر به الطماع من تخريب للنفس ومن تدمير للروابط والقيم , وليس الطمع مقصورا على أولئك الذين خانوا الأمانة الموكلة اليهم من قبل سيد البلاد حيث استغلوا مناصبهم وفهلوتهم في نهب أموال الخزينة , وتعيين ما يرونه مناسبا لتحقيق مصالحهم الآنية , وترك الناس الغلابى يعيشون تحت وطأة ظلمهم وجبروتهم , بل يبدوا أن باع الطمع قد امتد وتوسع كثيرا ليخترق كل مجالات الحياة , فترى الغش في البناء والسلع والبضائع منتشر , والشاطر من يكسب أكثر بتعاون من بعض من أوكل لهم الأمر وذلك بالتغاضي عما يقوم به أهل الغش والضلالة من تمرير لمنتجاتهم أو مستورداتهم الفاسدة لتباع بالأسواق, وليمرض المستهلكين المواطنين الذين بنوا هذا البلد وخدموا القيادة الهاشمية طيلة العقود الماضية , فلا يهم ذاك المسؤول الجشع الا جمع المال وكأنه لا يعلم بأن الأرزاق مقسومة من رب العباد, وأن رزقه سيكون محدودا طال أجله أم قصر , وكما ورد في المثل الشعبي " لو جريت جري الوحوش غير رزقك ما بتحوش " . 

ومن هنا نقول بأن الرضا بما قسمه الله تعالى للانسان كفيل بزيادة ماله وتأمين قوته وقوت أولاده فلا داعي للتحايل والميل نحو خداع المواطنين وقيادته الهاشمية الفذة لأنه سينكشف آجلا أم عاجلا , ولا يعود عليه الا بالخسارة الفادحة والنهاية الوخيمة التي لا تسره و لا تسر من والاه  . والكل قد قرأ أو سمع قصة صاحب الجنتين التي ورد ذكرها في سورة الكهف  , فبعد أن كان له من سعة الرزق الوفير والعز لكنه لم يكتف بما أعطاه الله , ومن جشعه وطمعه أعمي بصره بأن يشكر الله على ما آتاه من نعمة , فأنكر وظلم واغتر بما لديه , فما كانت نهايته الا ان تكون جنته أرض خاوية لا خير فيها , فعندها لم ينفعه ندمه. 

ان الطمع يجب أن يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاكثار من الأعمال الصالحة والا فان صاحبه لن يتمتع ببركة ما يأخذه , وسيعيش في حالة فقر دائم لأنه لا يقتنع  بما تناله يداه , فعن "حكيم بن حزام رضي الله عنه" قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني , ثم سألته فأعطاني , ثم سألته فأعطاني ثم قال : يا حكيم ان هذا المال خضرة حلوة , فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه , ومن أخذه باشراف نفس لم يبارك له فيه , وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلى . وكان رسول الله يدعوا قائلا " اللهم اني اعوذ بك من نفس لا تشبع ومن علم لا ينفع" , ويخطر ببالي مثلا " الطمع يقل ما جمع, والعبيد ثلاثة : عبد رق وعبد شهوة وعبد طمع " .

 وما نراه اليوم من نهب لخزينة الدولة وتهريب للأموال والحصول على الرشوة لقاء أجر خسيس يناله المرتشي ليعطي الحق لمن لا يستحقه , والحصول على أراض بطرق ملتوية وغيرها من وسائل الفساد المالي والاداري لهو الطمع الحقيقي الذي يصرع الرجال ويودي بحياتهم الى طريق مجهول لا يعلمه الا الله . وان كان للطمع فائدة فانه يكشف الفاسدين والمرتشين على المدى الطويل لأنهم يستمرون في الطمع تحت غطاء وعباءة الآخرين حتى يتم اكتشاف المستور وينال كل منهم عقابه الوخيم .

 فالطمع لا يصرع الرجال في المال فحسب بل في كل المجالات , فلنأخذ السياسة مثلا : فلولا طمع بعض الحكام في بعض الأقطار العربية من النيل لحقوق شعوبهم وعدم توزيعها عليهم بعدالة , وحب السيطرة على مقدرات أوطانهم , وتولية المناصب لغير مستحقيها , لما حصل كما رأيناه قد حصل لهم من مهانة ومجازر وتشريد لهم ولشعوبهم . فهل يظن الذي يكدح لجمع المال بالحرام أنه سوف يصل الى الحد الأدنى الذي يستغني فيه عن جمع المال فيرتاح من عناء الكدح والتعب!! ألم يعلم أن هذا المال سيكون وبالا عليه ومهما جمع فلن يقتنع  ولا يملأ عين ابن آدم الا التراب ! كم من الناس مات وهلك بسبب غرق أو حرق أو قتال لأجل مطمع من مطامع الدنيا وشهوة من شهواتها ! ألم يعلم أي من الذين يطمعون في سرقة أموال الوطن بأن الله يمهل ولا يهمل وأن عدالة الله وارادة الشعوب  أقوى من ظلمهم ولا بد أن تضع حدا لهم ان آجلا أو عاجلا ليكونوا عبرة لغيرهم ! !

ان الانتصار على النفس هو الانتصار الذي يدوم وأن الناجح في عمله وقيادته هو الذي يعد الخطط والبرامج السليمة التي تدر على أمته الخير الكثير فلا يلجأ الى الاختلاس أو زيادة المديونية لتبرير فشله. فقد قيل لنابليون يوما : ان جبال الألب الشاهقة تعوقك عن التقدم , فقال : يجب أن تزول من الأرض . وهكذا فان مصير كل من يعيث في الأرض فسادا , ويعيق الأمة عن التقدم أن يزول , والمسؤول في أي جهاز عليه أن يكون مخلصا يتوخى العدالة , وان لم يكن كذلك فلا يستعجل المنصب وكما قال الشافعي رحمه الله " لا تستعجل الرئاسة فانك ان كنت أهلا لها قدمك زمانك وان كنت غير أهل لها كان من الخير لك أن لا ينكشف نقصانك " , وكما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " فنرجوا الله أن يكون هذا حال كل مسؤول .

ألم تعلم يا من تطمع في الدنيا وتأكل أموال الناس وحقوقهم في تولي المناصب لغير ما يستحقها أن هذه الدنيا قد وصفها الله باللهو واللعب رغم ما فيها من مغريات ! وها هو نبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة , فيصبغ في النار صبغة , ثم يقال له , يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط , هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب , ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة , فيصبغ في الجنة صبغة , فيقال له : يا ابن آدم , هل رأيت بؤسا قط , هل مر بك شدة قط ؟ فيقول: لا والله يا رب , ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط ". ألا يعلم الفاسد الذي انشغل بحطام الدنيا أنها تشغله عن الآخرة وتكدر عليه صفوة حياته ! ألم يعلم بأنه في الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ! فما بال أناس يتنافسون في حطام الدنيا لا يبال أحدهم من أين حصل على هذا المال ! 
ان الطمع سلوك اذا استحوذ على الانسان أضره وأودى به في النهاية الى الهاوية , وهو ذلك السلوك الذي يجعل الانسان لا يشبع ولا يرضى فيبقى ساخطا حتى نهاية حياته. فهذا الشافعي رحمه الله يقول شعرا في الطمع : 

العبد حر ان قنع                                       والحر عبد ان طمع 

فاقنع ولا تطمع فلا                                    شيء يشين سوى الطمع

وهذا " فريدريك كيونغ " يقول : نحن نميل الى نسيان حقيقة أن السعادة لا تأتي نتيجة حصولنا على ما لا نملك وانما بادراك وتقدير ما نملك . وأما " مهاتما غاندي " فيقول : تقدم الأرض ما يكفي لتلبية حاجات كافة البشر, ولكن ليس بما يكفي لتلبية جشع كافة البشر. ان الانسان الجشع فقير دوما ومن الاستحالة أن تجده يعيش بسعادة , وصدق من قال ان القناعة كنز لا يفنى , وأن الطمع سبب من أسباب انهيار اقتصاد الدولة .

 ولهذا فاني أقترح على وزارة التربية والتعليم صياغة باب خاص عن المال العام ضمن مناهج الدراسة وفي كل المراحل التعليمية  , يتم تدريسه منذ الصفوف الأولى فالتعليم في الصغر كالنقش في الحجر وحتى تنغرس في عقول طلاب العلم منذ الصغر حرمة هذا المال قبل أن يكبروا ويفوت الأوان فيظلموا أنفسهم وأزواجهم وأبنائهم .

 ومن واجب الأجهزة الاعلامية المختلفة المساهمة في خلق مفاهيم جديدة تغرسها في عقول الأفراد بحيث تولد قناعات تشجب وتدين مرتكبي سرقة المال العام , ولا تقتصر على ذلك فحسب بل تمتد الى مرحلة درء المفاسد وتغيير أو تعديل المفاهيم الخاطئة لدى البعض من الناس الذين يتمنون الوصول الى المناصب ليس لخدمة البلد والمجتمع بل لجمع ما تطال أيديهم من المال ثم يغادروا وجيوبهم عامرة ليعيشوا بسعادة وهناء هم وعيالهم , وليبقى الناس الآخرين فقراء خدما لهم . فلا تدع يا أخي الطمع يتغلغل الى نفسك ولا تكن كما قال الشاعر عروة بن الورد :

دعيني للغني أسعى فاني                               رأيت الناس شرهم الفقير

وأبعدهم وأهونهم عليهم                                وان أمسى له حسب وخير 

ويقصيه الندي وتزدريه                                حليلته وينهره الصغير

ويلقى ذا الغني وله جلال                               يكاد فؤاد صاحبه يطير

قليل ذنبه والذنب جم                                    ولكن للغني رب غفور


فالطمع جزء لا يتجزأ من الفساد المستشري في وطننا الهاشمي الحبيب وعلى كل منا محاربته  والتحلي بالقناعة ولو بالقليل  لأن ذلك من التقوى كما قال خليفة المسلمين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه, فالطمع في النهاية سيقتل صاحبه,  فلله در الطمع ما أعدله , بدأ بصاحبه فقتله !!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد