وقفة تأملية حكيمة مع دور المعلم القدوة

mainThumb

20-02-2012 02:30 PM

ان للمعلم القدوة أثر فعال في سلوك طلابه , فهو الذي يحتضن أبناء هذا الوطن منذ نعومة أظفارهم , فيعلمهم الحروف الأبجدية وكيفية تركيبها لتكوين المفردات اللغوية وقراءتها ولفظها وتجريدها وتحليلها والقيم الدينية السمحة والأخلاق الحميدة , ويحرص على أن يكون مثالا وقدوة  لغيره من الطلبة والعامة, فيتمثلون بكلامه وسلوكه ويقلدونه في كل حركاته وسكناته لأنهم يعتبرونه المثل الأعلى لهم , ويتجلى هذا الأثر في تطبيق السلوك الانساني والقيمي والأخلاقي والتربوي من قبل طلابه حيث يجعل ما يصعب عليهم سهلا في تطبيقه وممارسته على كافة المستويات , ويعطي ثمارا طيبة يانعة لها فوائد جمة ينعكس على المجتمع والأفراد على حد سواء . فالمعلم القدوة يقتدي بمعلمنا الأول معلم البشرية جمعاء الحبيب محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بكل افعاله وأقواله , ويكون دليله في الحياة العملية والعلمية هو القرآن والسنة النبوية , ويقتدي به تبعا لذلك الأولاد في بيوتهم وفي شوارعهم وفي مساجدهم وفي كل منحى من مناحي الحياة . وهو المطلع الباحث لجمع مصادر المعرفة وينقلها لطلابه ليشكل بنيتهم الفكرية والثقافية والابداعية والمرجع الأساس لصقل عقولهم وتنويرها بالأفكار الطيبة التي تؤثر ايجابيا على سلوكهم وتصرفاتهم في كل جزئية من جزئيات حياتهم .

فالمعلم القدوة هو من يعيش ويتفاعل مع جودة التعليم , فيعطي أفضل ما تعلمه , ويلمسه الآباء في سلوك أبنائهم وأبجديات مختلف مهاراتهم العلمية واللغوية , وترى ولي الأمر سعيدا عندما يرى ولده وقد نهل من العلوم المختلفة وقد بنيت شخصيته على حب العلم والمعرفة والسلوك الحسن . وهو الذي يعلم طلابه ما يضرهم وما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم , فلا يكذب ولا يجامل على حساب منفعة دنيوية , لا يدخن وهو يعلمهم أضرار التدخين مثلا , ولا يأمرهم بالمعروف وهو بعيد عنه , فلا يكون متناقضا بين أقواله وأفعاله لأن صلاحه هو صلاح للأمة بأسرها, ولأنه يؤثر تأثيرا مباشرا وفعالا على الطلاب الذين سيبنون مستقبل هذا الوطن حيث يكون كل منهم قدوة صالحة لأهلهم ولمجتمعاتهم , وعندها تكون هذه المجتمعات قدوة للعالم بأسره . فالمعلم في دوره البناء يقدم الغذاء المادي للجسد والغذاء الروحي للنفس . وهو الذي ينمي روح الانتماء وحب الوطن , وهو الذي يقف صباح كل يوم مع طلابه ينشد أنشودة العلم , ويحي الراية الهاشمية , ويعزز حب التآخي , ويغرس فيهم الأخلاق الحسنة النابعة من أصول الدين الحنيف , فتتلى كل يوم في الطابور الصباحي آيات من ذكر الله الحكيم ويقرأ الأحاديث النبوية الشريفة المعبرة , ويلقي الكلمات الصباحية التي تحمل في طياتها عبرا وحكما ليتعظ بها الطلاب بناة الأمة ولتكون لهم طريقا يسيرون على نهجها , وهو الذي يعد الأجيال لتحمل المسؤولية فينشئهم التنشئة الصالحة ويعلمهم العلوم النافعة ليكون كل منهم قوي الايمان , صحيح العقيدة والمنهج , حسن الخلق والسلوك , قوي الجسم , سليم البنية , متوازن الشخصية , مهتديا بهدي الاسلام , حاملا رسالة خير للعالمين , واسع الثقافة والادراك , نافعا لمجتمعه , معتزا بدينه ولغته العربية وتاريخ أمته وحضارتها ومقبلا على الحياة بوعي ونشاط ومسؤولية .

ان الانسان أيا كان لا يستطيع العيش لوحده بمعزل عن الناس  , ولا بد له من معلم يعلمه فنون الحياة ليستطيع مواجهة التحديات التي ستواجهه أثناء سير حياته والتغلب عليها , ومن هذا القبيل سيرجع الفضل الى معلمه في حالة تطبيق ما تعلمه لتحقيق غاياته وأهدافه , فلا ينكر فضله عليه  وقد وجه النبي محمد صلى الله عليه وسلم أمته الى الاعتراف بالجميل وعدم نكرانه , فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أعطي عطاء فوجد فليجز به , ومن لم يجد فليثن فان من أثنى فقد شكر , ومن كتم فقد كفر , ومن تحلى بما لم يعطه كان كلابس ثوبي زور " . فالمعلم القدوة لا ينكر جميله وعرفانه وفضله , ومن يفعل ذلك فهو دليل قاطع على خسة نفسه لأن النفوس الكريمة لا تعرف الجحود والنكران , بل انها على الدوام وفية معترفة لذوي الفضل بالفضل , وأحد الشعراء يقول :

ولقد دعتني للخلاف عشيرتي                 فعددت قولهم من الاضلال
اني امرؤ في الوفاء سجية                    وفعال كل مهذب مفضال

ان مسيرة المعلم القدوة هي حقا مسيرة عطاء على الدوام يبذل كل جهد من أجل تقديم العلم والمعرفة والثقافة من أجل اعداد أبناء الوطن , فهو الراية الوطنية الخفاقة , ورسول المعرفة وحامل مشعل الحضارة وصانع الأجيال وباني الحضارات . فما من حضارة شهدها التاريخ الا وقد قامت على جهود المربين والمعلمين وما من قائد أو شاعر أو عالم الا وقد غرس المعلم في نفسه منذ الصغر حب المعرفة والثقة بالنفس , فالمعلم هو أساس نهضة الأمم لأنه الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها في تربية النشىء وتكوين جيل واع مستنير قادر على القيام بأعباء النهضة في كل المجالات , صاحب رسالة يفني روحه ومهجته , ويضحي بنظره في سبيل أبناء الوطن ليمضوا الى الحياة وهم أكثر صلابة وقوة وعزيمة وأكثر شموخا وتحد لكل تحديات الحياة , اذ تتخرج قوافل الشباب في كل عام من مدارسنا وجامعاتنا متسلحة بكل ما يحميها ويقيها من شرور التخلف والجهل محصنة بكل ما يحمي فكرها من أباطيل ونظريات تروج لها وسائل الاعلام الأجنبية والصهيونية العالمية . فالمعلم القدوة هو الذي يؤتمن جانبه على مستقبل الوطن وتفع عليه المسؤولية الكبرى في تعليم وتربية الانسان الذي يعتبر الثروة الأغلى في هذا الكون , أفلا يستحق منا بعد ذلك كل التحية والاكرام ومباركة جهوده !

لا بد أن نعلم أن عملية التعليم تفوق كونها مهمة كسائر المهن لأن طرفي التعامل فيها يتصف بالانسانية  - أي أنها تدور بين انسان ذا معارف وقدرات ومهارات وبين انسان طالب علم ذا حاجة لكل منها في ضوء انسانيته التي تميزه عن سائر المخلوقات . فالمعلم القدوة يأخذ باعتباره عند التدريس كل الجوانب المحفزة منها والمثبطة ليتغلب عليها بحنكته وحسن ادارته , فهو المخلص الذي يعتبر عمله رسالة يتعبد بها ربه من خلالها فينفع الناس وأمته في شتى المجالات, ويعد خططه التدريسية باهتمام بالغ لما لهذه الخطط من أثر فعال في توصيل المعلومة أخذا بعين الاعتبار الأهداف المرجوة واستراتيجيات التعليم المناسبة والتي تكفل باحداث تفاعل صفي ملحوظ ينبثق منها بنا ء الشخصية المطلوبة , ويدير صفه متحليا بقوة الشخصية التي تكسب ود واحترام طلابه ولبقا حازما في لين , جادا في عمله , رفيقا بطلابه يغرس في نفوسهم هيبته من منطلق الاحترام الذي لا يعتمد على مصالح آنية , وموجها ومستثمرا طاقات وقدرات طلابه نحو الابداع الذاتي وتحقيق أهدافه التعليمية . فالاعداد الجيد من أهم الصفات التي يتحلى بها المعلم القدوة , فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته أعد خطة في غاية الدقة والاتقان , فقد حدد الهدف من هجرته وسبقه بعض من أصحابه لاستطلاع الوضع وجهز الرحلة واستأجر الدليل وموه في مسير وغيرها الكثير من الاجراءات لكي يحقق هدفه . 

ان مهنة التدريس هي المهنة الأم وذلك لأنها تعتبر المصدر الأساس الذي يمهد للمهن الأخرى ويمدها بالعناصر البشرية المؤهلة علميا واجتماعيا وفنيا وأخلاقيا . فعلى الأمة أن تقدر جهود المعلمين وأن تظهر لهذه الفئة كل احترام وتقدير فلا يتنكروا لما يقدموا من تضحيات في سبيل تعليم وتربية أبنائهم ولا يكونوا كما قال الشاعر :

أعلمه الرماية كل يوم                               فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافي                             فلما أصبح عالما هجاني
تعلم الأبجدية والأرقام مني                        فلما أصبح عالما نفاني
وأما ما يقوله الأب لابنه  نتيجة نكرانه لما قام به أباه من حسن النفقة والرعاية والتدبير:
سعيت في الأرض من أجل راحته               فلما أصبح عاقلا غصاني

وأما ما يقوله الجزار الذي اعتنى بخرافه أحسن عناية ولم يقصر في خدمته حتى ترعرع وسمن:

وكم أطعمته لحم الخراف                      فلما صار ذا كرش وطاني
وأما ما يقول الراعي بعد ما عناه من رعاية لأغنامه :
وكم رعيت العنز بعد شرائه                 فلما أعلن الشيع شراني

وهذا الشاعر أحمد شوقي يقول عن حنكة وتجربة مريرة يعانيها المعلم  في يوم تكريم المعلم :

لو جرب التعليم شوقي ساعة                   لقضى الحياة شقاوة وخمولا
حسب المعلم غمة وكآبة                        مرأى الدفاتر بكرة وأصيلا
لا تعجبوا ان صحت يوما صيحة             ووقعت ما بين البنوك قتيلا
يا من يريد الانتحار وجدته                    ان المعلم لا يعيش طويلا 

فالتعليم ليس بالأمر السهل كما يظن الناس , وان أرادوا أن يكشفوا الحقيقة المرة التي يعاني منها المعلم القدوة , فليجربوا التعليم كما جربها شوقي ولو لساعة واحدة ليرى كم من العذاب سيناله من جراء توصيل معلومة علمية لدى كل طالب من طلابه , فسيرى عندئذ أنه كمثل ناحت الصخر الذي يحتاج الى جهد وطاقة لا يعلى عليها لكي يفهم طلابه ويوصل الفكرة اليهم بكل يسر وسهولة مستخدما أساليب واستراتيجيات متنوعة ذات طابع تربوي محض لا يستطيع أي شخص أن يتبناها أو يطبقها حتى مع أولاده في المنزل . فالتعليم يحتاج الى صبر شديد ليس بالسهل أن يتحلى به الانسان , ومن هذا المنطلق فلنقدر جهود معلمينا وفضلهم على تعليم وتثقيف الأمة فلولاهم لأصبحنا أميين  جهلة عاجزين على القراءة والكتابة , ولبقينا تحت الاستعمار الأجنبي خدما لهم لا نعرف أين نسير أو نتجه.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد