ليس الخير بكثرة المال بل بكثرة العلم وعظم الحلم

mainThumb

13-04-2012 09:43 PM

 يعترف الجميع أن المال هو دينامو الحياة لأن من متطلبات الحياة المأكل والمشرب والمأوى والملبس والعلاج الذي لا يتأتى ولا يتحقق الا به , ولكن عندما يصبح المال هدفا للجمع والتكديس دون استثماره بالحلال ودون أن يعرف من يجمعه حق الله فيه , فيكتسبه صاحبه بالحرام ويصرفه في الحرام  فانه حقا سيصبح يوما ما وبالا عليه ومنقلب سوء له لا يعرف خاتمة أمره مهما تستر وتغطى بأنواع الأغطية البهلوانية والخداعية والذواتية والعشائرية لأن وعد الله آت ولا بد أن ينجلي كل شيء ويظهر للعيان مهما طال الزمن أو قصر .فالأصل في المال أن يكون وسيلة لا غاية وأداة من أدوات الاستخلاف في الأرض وعمارتها , فبالمال تبنى المنشئات بمختلف أنواعها وتتطور الحياة ويتطور العلم ويكون مصدر خير ان صرفه صاحبه في ما يرضي الله سبحانه وتعالى . فهذا "قارون"  كان لديه من المال الكثير حيث فاضت بها خزائنه واكتظت صناديقه بما حوته منها فلم يعد يستطيع رجاله الأقوياء حمل مفاتيحها , ولكنه كفر بأنعم الله  فلم يكن عبدا شكورا واعتز بنفسه وتكبر على قومه وافتخر بما آتاه الله من المال , فعاقبه الله اذ خسف به الأرض وابتلعته فلم يترك له أثرا , ومن هذا القبيل نقول بأن الأهم من المال هو التقوى والرضا والصحة والقناعة. 

لقد جاء الشرع الحنيف على السعي الى الرزق وفي تحصيل الأموال واكتسابه على أنه وسيلة لغايات محمودة ومقاصد مشروعة وجعل للحصول عليه ضوابط وقواعد واضحة المعالم لا يجوز تجاوزها ولا التعدي لحدودها كي تتحقق منه الصالح للفرد والجماعة . وقد قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز " يا أيها الناس كلوا في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان انه لكم عدو مبين " , ولقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الكسب الحرام لأنه مدار شؤم وبلاء على صاحبه, فبسببه يقسو القلب وينطفئ نور الايمان ويحل غضب الجبار ويمنع اجابة الدعاء عند الكرب والشدة , وتفشو مساوئ الأخلاق من سرقة ورشوة وربا وغش واحتكار وتطفيف الكيل والميزان وأكل مال اليتيم وأكل أموال الناس بالباطل وشيوع الفواحش ما ظهر منها وما بطن وهذا لعمري ما نراه اليوم , ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال  " يأتي عل الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه , أمن الحلال أم من الحرام " , وما أكثر ما تطال أيدي الناس من الحرام في هذا الزمان حيث لا يبالي الواحد منهم في قضية الكسب فلا يدققون ولا يتحققون من مكاسبهم . فمن يكسب الحرام لا يستحي من الله , والاستحياء أن يحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى . ويقول الشاعر : 
 
اذا لم تخش عاقبة الليالي                              ولم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير                           ولا في الدنيا اذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير                         ويبقى العود ما بقي اللحاء
وقال آخر
ورب قبيحة ما حال بيني                           وبين ركوبها الا الحياء 
فكان هو الدواء لها ولكن                           اذا ذهب الحياء فلا دواء
 
وهذا الفاروق عمر بن الخطاب يقول " كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام" , ولقد بلغ الأمر عند السلف الصالح أنهم اذا جلس الواعظ  للناس قال العلماء " تفقدوا منه ثلاثا : فان كان معتقدا لبدعة فلا تجالسوه , فانه على لسان الشيطان ينطق , وان كان سيئ الطعمة فعن الهوى ينطق , فان لم يكن مكين العقل فانه يفسد بكلامه أكثر . وهكذا نرى البعض يحرص على الاستعجال في كسب الرزق  وهو غايته المرجوة دون الالتفات الى نوعية الكسب بسبب الطمع وعدم القناعة بما أعطاه  الله من نعم . وقد قال الشاعر :
أيا من عاش في الدنيا طويلا                   وأفنى العمر في قيل وقال
وأتعب نفسه فيما سيغنى                        وجمع من حرام أو حلال 
هب الدنيا تقاد اليك عفوا                       أليس مصير ذلك للزوال
وقال آخر :
لا ترغبن في كثير من المال فكنزه          من الحرام فلا ينمى وان كثرا
واطلب حلالا وان قلت فواضله         ان الحلال زكي حيثما ذكرا  
 
وهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب يعظ الناس قائلا " العلم خير من المال لأن المال يحرسه والعلم يحرسك , والمال تفنيه النفقة والعلم يزكو على الانفاق , والعلم حاكم والمال محكوم عليه , مات خزانوا المال وهم أحياء , والعلماء باقون ما بقي الدهر, أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة " . ومن هنا نرى أن العلم يسمو على كثرة المال الذي لا يؤدي صاحبه حقه انجاه الله فالمال يمكن أن يزول ولكن العلم باق له تأثيره الشديد على سير حياة الأمة , وهو الذي يحكم ولا يحكم عليه كالمال الذي لا يتوانى بعض من يملكه في كسبه بوسائل شتى وينفقه فيما لا يرضي الله عز وجل . فصاحب العلم اسمه مخلد حتى بعد رحيله من الدنيا وفائدته تعم القاصي والداني الى ما يشاء الله تعالى , ولكن المال يرحل برحيل صاحبه وتنقطع فائدته الا ما كان مقتصرا منه على عمل الخيرات , وكما نعلم أن العلماء هم ورثة الأنبياء وليس أصحاب الأموال . 
 
وأما الحلم الذي يتسم صاحبه بضبط النفس , وكظم الغيض , والبعد عن الغضب , ومقابلة السيئة بالحسنة والترفع عن شتم الناس ,  وتنزيه النفس عن سبهم وعيبهم فهو أفضل بكثير من صاحب المال الوفير الذي يكنزه ويكسبه بالحرام ومن خزينة الدولة التي هي ملك للشعب , وهذا سيد الأنبياء والرسل محمد عليه الصلاة والسلام الذي رواه الترمذي  يقول  "من كطم غيظا وهو قادر على أن ينفذه , دعاه الله عز وجل على رؤوس الأشهاد يوم القيامة يخيره من الحور العين ما شاء " , ففي الحلم يتحكم الانسان بانفعالاته ويصبح الحلم وسيلة لكسب الخصوم والتغلب على شياطينهم وتحويلهم الى أصدقاء وبه ينال محبة الناس واحترامهم . وفد قرن الله سبحانه وتعالى العلم بالحلم قائلا " وان الله لعليم حليم " , فكمال العلم من كمال الحلم . وقد تتفاوت درجات الناس في استجابتهم للمثيرات حولهم , فمنهم من يستثار لأتفه الأسباب فيبطش ويخطئ على عجل , ومنهم من تستثيره الشدائد فيتعامل معها بعقل وحكمة وأناة , فيخرج من شدتها مأجورا مشكورا , ومع هذا التفاوت فهناك علاقة وثيقة بين ثقة الفرد بنفسه وبين أناته مع الآخرين وتجاوزه عن خطئهم , فكما سما دينه وخلقه يتسع صدره ويوسع غيره بعلمه , ويعذر من أخطأ ,ويتسامح من سفه نفسه . وهذا معاوية يقول لعرابة بن أوس : بم سدت قومك يا عرابه ؟ قال : " يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم , فمن فعل فعلي فهو مثلي , ومن جاوزني فهو أفضل مني , ومن قصر عني فأنا خير منه ", وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والوقار والحلم , وتواضعوا لمن تتعلمون منه وليتواضع بكم من يتعلم منكم , ولا تكونوا جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم." ويقال ما آتى الله عبدا علما الا آتاه معه حلما وتواضعا وحسن خلق ورفقا , فذلك هو العلم النافع . 
 
ان الحلم سيد وصاحبه يسود وينصره الناس , وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلم ساد ومن تفهم ازداد " وقال أيضا " أول عوص الحليم عن حلمه أن الناس أنصاره " وقال أديب أريب " من غرس شجرة الحلم اجتنى ثمرة السلم" . وأما العلم لا يقاس بالثراء الفاحش  وصاحبه هو المحظوظ  ومن لا يعرف قدر العلم فقد ظلم نقسه وقد صدق الشاعر عندما قال :
 
من قاس بالعلم الثراء فانه                              في حكمه أعمى البصيرة كاذب
 
وقال شاعر آخر :
 
العلم مبلغ قوم ذروة الشرف                          وصاحب العلم محظوظ من التلف
يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه                       بالموبقات فما للعلم من خلف
العلم يرفع بيتا لا عماد له                            والجهل يهدم بيت العز والشرف
 
وقال شاعر آخر :
 
يا طالب العلم لا تبغي به بدلا                      فقد ظفرت ورب اللوح والقلم
وقدس العلم واعرف قدر حرمته                 في القول والفعل والآداب والتزم
وانهض بعزم قوي لا انثناء له                   لو يعلم المرء قدر العلم لم ينم
وهذا الشافعي رحمه الله يقول :
اصبر على مر الجفا من معلم                          فان رسوب العلم في نفراته
ومن لم يذق من التعلم ساعة                           تجرع ذل الجهل طول حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه                          فكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى                       اذ لم يكونا لا اعتبار لذاته 
 
وقال أيضا :
 
شكوت الى وكيع سوء حفظي                     فأرشدني الى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور                            ونور الله لا يهدى لعاصي    
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول :
ليس البلية في أيامنا عجبا                       بل السلامة فيها أعجب العجب 
ليس الجمال بأثواب تزيننا                      ان الجمال جمال العلم والأدب
ليس اليتيم من مات والده                      ان اليتيم يتيم العلم والأدب  
 
فالافتخار ليس بالمال والنسب والجاه بل بنهل العلم من أوسع أبوابه والاتصاف بالحلم الذي يحول العدو الى صديق , ولهذا فلنكن من أهل العلم وأهل الحلم  لا من أهل الفساد الذين يكنزون الأموال عن طريق سرقة المال العام بحكم مناصبهم والرشوة  وغيرها مما حرم الله وكما يقول الشاعر:
 
وكن صاحبا للحلم في كل مشهد             فما الحلم الا خير خدن وصاحب
وكن حافظا عهد الصديق وراعيا          تذق من كمال الحفظ صفو المشارب
فطوبى لمن طاب كسبه وصلحت سريرته وكرمت علانيته وعزل عن الناس شره ومن عمل بعلمه وأنفق من فضل ماله ومن زاد حلمه . وقد قيل أن الدراهم تفسد الأخلاق ومحبة المال أساس كل شر واذا طلبت المال كما قال " أفلاطون" فاجعل زمان الاكتساب له أطول من زمان الانتفاع به , وكما قال " لقمان " استعن بالكسب الحلال على الفقر فانه ما افتقر انسان الا أصابته رقة في دينه وضعف في عقله وذهاب مرؤته وأعظم من ذلك هو استخفاف الناس به  . وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يعتبر العلم والحلم من مكارم الأخلاق قائلا :
 
انما المكارم أخلاق مطهرة           الدين أولها والعقل ثانيها
والعلم ثالثها والحلم رابعها          والجود خامسها والفضل سادسها
 
فلم لا نكون من الذين يتقون الله فيكسب كل منا ماله بالحلال وينفقه بالحلال ولا تأخذنا زخارف الدنيا فنهلك , ونهتم بالتزود بالعلم والحلم ,  وهذا الخليفة الراشد علي بن أبي طالب يقول " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك وأن تباهي الناس بعبادة ربك , فان أحسنت حمدت الله وان أسأت استغفرت الله , ولا خير في الدنيا الا لأحد رجلين : رجل أذنب ذنوبا فهو يتداركها بالتوبة أو رجل يسارع في الخيرات , ولا عمل مع التقوى وكيف يقل ما تقبل " . وأختتم مرددا ما قاله أيضا في شعره المعتبر :
 
رأيت الدهر مختلفا يدور             فلا حزن يدوم ولا سرور
وقد بنت الملوك قصورا             فلم تبق الملوك ولا القصور


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد