حين تُهزم الجيوش وتنتصر الإرادة

mainThumb

04-06-2025 02:02 AM

في عام 1948، دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين تحت شعار الدعم والنصرة، لكن التباين في الأهداف، وغياب التنسيق الحقيقي، ووجود مصالح سياسية متقاطعة، جعل من هذا الدخول بداية تراجع مأساوي. غادرت القوات تاركة خلفها أرضًا تزداد اشتعالًا، وشعبًا مشرّدًا بلا سند حقيقي. لم تكن الهزيمة حتمًا قدريًا، بل نتيجة اختيارات خاطئة، دفع ثمنها الفلسطيني وحده، وهو يراقب التحولات من ساحة المعركة إلى طاولات المفاوضات، ومن البندقية إلى البيان الصحفي.
ثم جاءت نكسة عام 1967. ستة أيام كانت كافية ليس فقط لفقدان القدس وسيناء والجولان والضفة، بل لكشف حجم الاختلالات العميقة داخل الأنظمة العربية ذاتها. سقطت الجبهات بسرعة صادمة، وبرزت أسئلة موجعة عن الاستعداد، وعن القرار، وعن التوقيت. أُسقطت الطائرات قبل أن تقلع، وتحوّلت الجيوش إلى أوراق تفاوض لاحقة. بدا وكأن الشعارات كانت أكبر من الواقع، وأن الشعوب، التي كانت مستعدة للتضحية، لم تجد في بعض من قادوا المعركة ما يوازي تضحياتها.
لكن الزمن لم يتوقف هناك.
اليوم، بعد مايقرب من سبعمئة يوم من العدوان الهمجي ومن حرب الابادة و التجويع ، تقف المقاومة وحدها. لا جيوش، لا دول، لا غطاء سياسي، لا دبلوماسية، لا دعم فعلي لا طعام ولا دواء. وحدها. لكنها تقاتل، وتحفر، وتصنع سلاحها من الأنقاض، وتحمي شعبها من تحت حمم النار و الصواريخ ، وتُربك العصابة النووية التي لا تنام خوفًا من نفق، أو صاروخ محلي الصنع، أو شبح مقاتل خرج من بين الدمار.
السؤال أين العرب؟
بعضهم باع، بعضهم صمت، بعضهم أدار وجهه خجلًا من مرآته. والبعض صار يحاسب المقاومة بدل أن يحاسب عصابة الاحتلال. صار يتهمها بأنها "تجرّ الشعب للدمار"، وكأن الاحتلال جاء يحمل الزهور!!! ألم ترَ الأطفال المذبوحين؟ ألم تسمع صراخ الأم التي دُفن أولادها تحت بيتها؟ ألم تحصِ عدد العائلات التي مُسحت من السجل المدني؟ كيف تجرؤ أن تساوي بين من يُبيد، ومن يُبَاد كيف تساوي بين الضحية والجلاد؟
هل تذكر حيفا؟ هل تذكر يافا؟ هل سمعت بصفد، بعكا، بالمجزرة التي وقعت في دير ياسين؟
كل بيت، كل قرية، كل شارع، فيه قصة. فيه طفل انتظر أباه ولم يعد. فيه امرأة وضعت مولودها في طريق التهجير. فيه شيخ مات حسرًة لأنه لم يقوَ على حمل مفتاح بيته معه. هذه ليست رواية، هذه ذاكرة شعب لا تمحى. ومع ذلك، تقف المقاومة اليوم، لا لتحكي القصة فقط، بل لتردّها بالصاروخ، بالنفق، بالكمين وبالكلمة.
من غبار التاريخ، نهضت غزة
لا ماء، لا دواء، لا ممر ولا ملجئ. ومع ذلك، فيها رجال لا ينامون، ونساء يلدن الأبطال تحت القصف، وأطفال يحفظون أسماء الشهداء بدل أسماء الكرتون، ويحلمون بالعودة بدل الألعاب. هذه غزة التي تُقاوِم ليس لأنها تملك القوة، بل لأنها تملك الحق، والإيمان، والجرح المفتوح منذ اكثرمن 75 عامًا.
من المنتصر الآن؟
الذي يحتل ويختبئ خلف التكنولوجيا والجدار الحديدي؟ أم الذي يُحاصَر، ويجوع، ويُقصَف، ثم يعود ليقاتل بيديه، بأسنانه، بعقيدته وبإيمانه؟
من الذي سقط؟ الذي عنده كل شيء ويخشى طفلًا بحجر، أم الذي لا يملك شيئًا لكنه يجعل الأرض تهتز تحت أقدام العدو المجرم؟
هذه ليست حربًا بين جيشين. هذه حرب بين من يملك الأرض، والحق، والدم، وبين من يملك الطائرات والدعم الدولي لكنه لا يملك شرعية البقاء.
وهذه ليست ملحمة تنتهي بانتصار سريع، هذه قصة أمة، كتبتها الخيانة بالحبر، وتعيد المقاومة كتابتها الآن بالدم.
ماذا ننتظر؟
كل يوم تُدنس ساحات الأقصى، بأقدام قطعان المستوطنين النجسة، المرفوعين على أكتاف جنود عصابة الاحتلال، والملفوفين بحماية قنابل الغاز والقنّاصة. كل يوم ينزف المسجد الذي كنّا نحلف يومًا أن نحرّره، ثم نسينا يميننا، أو تناسيناه.
وفي الضفة الغربية؟
التي قيل لنا إنها "الحل"، آخر ما تبقى لنا من كرامة مقسومة! هناك يُقتل الشباب بدم بارد، يُعتقل آلاف، تُصادر الأراضي أمام أعين أصحابها، وتُجرف البيوت كما تُجرف الأعناق من جذورها. لا اقتصاد، لا حدود، لا مطار، لا حرية حركة، لا شيء… مجرد أشلاء دولة وهمية، نَصبتها اتفاقات ماتت قبل أن تُولد، وشاهد على ذلك كل بيت مهدوم، وكل أم تحمل صورة ابنها الشهيد أو المعتقل.
صور لنا ان هذا هو الحل الوحيد شبه دولة و السلام ، فلا اخذنا شبه دولة و لا السلام
لكن الجلاد، لم يرضَ. لأن من يتغذى على الدم، لا يشبع من الجراح.
ولكن هيهات ان يموت الحق وهو وعد الحق الذي لا يتبدل
أتعرف قرية في التاريخ كله، هُدمت 241 مرة؟
العراقيب، قرية صغيرة في النقب، يسكنها بعض البدو الفلسطينيين. في كل مرة يهدم الاحتلال منازلهم، يعودون ويبنونها من جديد.أول مرة؟ سكنوا في الخيام.
الثانية؟ أعادوا بناء البيوت.
الثالثة؟ أعادوا البناء من جديد.وهكذا، حتى وصلت عصابة الاحتلال إلى المرة رقم 241.
241 مرة تهدم، و240 مرة يُعاد البناء. وربما الآن تُفكر العائلات هناك متى سيبنونها مرة أخرى، ليُعيد الاحتلال هدمها للمرة 242.
هل سمعتم بإصرار كهذا؟
هل قرأتم في كل كتب التاريخ عن شعب يقف بهذه القوة في وجه الجرافة والرصاص؟ العراقيب ليست الوحيدة ولكنهالمثصرخ لكل مبأن هذشب لن يقتلع من أرضة
أيُّ منطق يحتمل أن تقول لعالم كامل: “بيتي هُدم، وسأعيد بناءه!” ثم تفعل ذلك أكثر من مئتي واربعون مرة، وأنت تعلم أن الهدم قادم لا محالة؟ إنه ليس العناد. إنه الإيمان.
إيمان الإنسان الذي يقول: "أنا من هذه الأرض، وسأدفن فيها، لا في خيمة لجوء، ولا في خريطة مُزقت على الطاولة."
ماذا ننتظر؟
أكثر من 75 عامًا، والشعب الفلسطيني يُذبح على مراحل.
من دير ياسين إلى جنين، من صبرا إلى غزة، من صمت العالم إلى خيانة القريب قبل الغريب .
أطفال يُقتلون، بيوت تُنسف، أراضٍ تُسرق، مقدسات تُدنّس، وجراح تتوارثها الأجيال وكأن الجنسية الوحيدة التي لم تستطع عصابة الاحتلال نزعها هي الانتماء
أيُعقل أننا ما زلنا نطلب من الفلسطيني “ضبط النفس”؟
أيُعقل أن العالم ما زال يساوي بين القاتل والمقتول؟
أيُعقل أن الكلمة التي أصبحت تهمة هي “التحرير”؟
أيُعقل أن تُفتح العواصم للاحتلال وتُغلق في وجه المقاومة؟
الختام؟ لا ختام لهذا الصمود.
لأن كل مرة تُهدم فيها العراقيب، يُكتب فصل جديد في سفر الصبر الفلسطيني.
كل طفل يولد في غزة، يولد وفي يده حجر لا دمية.
كل أم تودّع ابنها، تزرع شجرة زيتون في قلبها.
كل شهيد، كل أسير، كل بيت مهدوم، كل جرح مفتوح… ليسوا أرقامًا، بل جدرانًا في بيت الوطن الذي لم يُهدم رغم كل شيء.
هل تظنون أن الفلسطيني سيخرج من أرضه؟
سيخرج من تحت الأنقاض، من بين الأنفاس المختنقة، من بين الأنين والمقابر.
لكن من أرضه؟ لا.
لأن من بنى بيته 240 مرة، لن يتركه في المرة 241 وهذا هو الصمود وهذا هو الانتصار



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد