في صفحة "فيس بوك"، لمعلم يعمل في مدرسة من أقدم مدارس الأردن وجبل عجلون، وأميزها، تتوالى صور ضوئية لمدرسين "سجائرهم" بين أسنانهم وشفاههم وهم يجلسون ويقفون بين طلابهم، في إحدى ساحاتها، وفي أثناء يومهم الدراسي وساعات عملهم.
هذا المشهد المخزي لا يتكرر في هذه المدرسة وحدها، وإنما ـ أيضاً ـ يحضر في غالبية المؤسسات التعليمية في وطننا العربي، فالمعلم والطالب يدخن كل منهما "سجائره" على مرأى الآخر، أين: في الشارع؟ في الحافلة؟ خارج أسوار المدرسة؟ ليس هنا فحسب، وإنّما ـ أيضاً ـ في داخل المدرسة: أمام الغرفة الصفية، في الملعب، في الحديقة، في المعرض، في المختبر، في المكتبة، في المطبخ، في الاحتفال، في الرحلة، وحتى أثناء الطابور...
هذا الواقع يراه غالبيتنا، وهو ظاهرة تنمو، بعدما كان يصنف تصرفاً فردياً ونادراً، بل تحوّلت "السيجارة" جزءاً من علاقة الطالب بمعلمه؛ فهناك معلمون يدخنون في "القَطْعَات" ممّا يتوافر لدى طلابهم من "سجائر"؛ فهذا معلم كان خاطب تلميذه: ("عمر"، "هات سيجارة")، وغيره لآخر: "معك ولعة؟" وربما منهم مَن يداعب: (معك "سيجارة" لهالولعة؟)، وبعضهم يرسل طالباً إلى أقرب دكان؛ ليشتري له حاجته من "تتنه"، ومن دون أن يفرِّق بين طالب غير مدخن ومدخن، ولا حتى بين مجتهد ومهمل، أو منضبط و"صايع"، المهم أن يأتي له بـ"طُعمه"، وإن كان طالباً نموذجياً وأبدى حسرته على ما سيفوته من الحصة أو الحصص، ردّ عليه ليسكته: "مو مشكلة ... بزيدك خمس علامات، خلها تطج معك"، وأيضاً من دون أن يحسب حساباً لما قد يتعرض له الطالب، من إنهاك أو حادث مروري أو تحرش ... أو ما قد يتسبب به الطالب نفسه لغيره، من تخريب أو سرقة أو معاكسة بنت ... المهم "يشعلنها".
ذاك بعض مما أشاهده بأم عينيّ، اليوم، وهنا وهناك، كما رأيته في مختلف مدارس الأردن، حينما كنت طالباً في الثمانينات وأوّل التسعينات، ثمّ معلماً، سنوات قليلة، من سني الألفين.
وإذا كان المعلم لا يسمح لأحد، طالباً كان أو ولي أمر ـ مثلاً ـ بأن يسيء إليه، أو ينتقص من كرامته، أو يطعن في كفاءته، وألا ينكر عليه جهده وتعبه، فهو الذي يحفظ ماء وجهه، من خلال سلوكه، الذي يؤثر في الطالب، إيجاباً أو سلباً.
وإذا كان بعضهم يعيب على الطلاب، تدخينهم في حضرة معلميهم، فإنّ العيب الحقيقي، بل العار، أن يدخن المربي أمام ناشدي التوجيه، وإذا كان كثيرون يرون أنّ تدخين الطلبة في المدارس، أمر خطير، ويحتاج حملات توعية فمكافحة، وهذا رأي صائب وجدير بالرعاية، فإنّ الأخطر هو تدخين العاملين فيها، فالعتب على مَن يُفترض أنّهم عقلاء، لا على مَن يُطلق عليهم "جُهّال".
لن أفتح باب رأي ديننا الإسلامي في "الدخان"؛ لأنني لست مفتياً، ولا باب الصحة؛ لأنني لست طبيباً، وكلاهما معلوم، وإنّما أوجه بتفعيل القوانين والقرارات الصادرة عن وزارة التربية والتعليم ووزارة الصحة، وكذلك بعض البلديات، والتي تمنع التدخين في الأماكن العامّة، ومنها المدارس، وإيقاع العقوبات على مخالفيها، وفي حال الاستمرار في الضرب بها عرض الحائط، أقترح تخصيص غرفة، جيدة التهوية، وبعيدة عن أعين الطلبة، في كلّ مدرسة، للمعلمين المدخنين.
تلك المشاهد ليست حال بعض المعلمين المدخنين وحدهم، وإنما ـ أيضاً ـ تنطبق على بعض العاملين في ميدان التعليم من المدخنين، كمديري التربية والتعليم والمدارس، والمشرفين، والإداريين، والمختصين النفسيين، والمرشدين، وأمناء المكتبات والمختبرات، والسائقين، والحرّاس، والخدم.
ومما يضحك ويبكي، في الوقت ذاته، أن يُنصِّب المعلم المدخن، نفسَه، واعظاً على طالبه المدخن، فينهاه عن "السبرسة"، مخافةَ احترافه "الصنعة"، وينصحه بترك "الدلع"، خشيةَ "الولع"، ولعلّ الطالب يكون جريئاً، في مثل هذه الحالة، وهي جرأة محمودة؛ فيرد على معلمه: أَطفئ "سيجارتك" أُطفئ "سيجارتي"، ارمِ "سيجارتك" أرمِ "سيجارتي"، عساه يقضي بسببها ساعات من التفكير، تنتهي باعتزاله "التحشيش"، أبداً، أو على الأقل، أمام ناشئته.