ثقافة الاعتذار

ثقافة الاعتذار

24-06-2012 10:24 PM

 سيدة أميركية تبلغ الـ68 من العمر، وتجلس في حافلة المدرسة كجزء من عملها اليومي كمراقبة للطلاب. هذه السيدة كانت موضع تندّر وسخرية ثلاثة من الصبية ممن يشاركونها ركوب الحافلة، وليتهم اكتفوا بما فعلوا، ولكنهم وثّقوه بتسجيله وعرضه في «الإنترنت»، المقطع القصير الذي لم يخطر ببالهم أنه سيجذب ثلاثة ملايين و700 مشاهد، وهنا بدأت المشكلة، فالاستهجان الكبير الذي قوبل به تصرّف الصبية في تجاوزهم لحدود الأدب وأصوليات التعامل العام، استدعى رد فعل جماعي على مستوى الإيذاء المعنوي الذي عانت منه «الجَدّة» - كما سمّتها الصحف ونشرات الأخبار - وعلى رغم اعتذار الصبية من السيدة كارين كلاين على ما بدر منهم في حقها، وعلى رغم إبداء أهالي الصبية أقصى درجات الأسف نيابة عنهم وعن أبنائهم، إلاّ أن كارين كلاين كانت على موعد مختلف من التعويض، إذ التطوّع بجمع مبلغ مالي وصل إلى 5000 دولار يسلّم إلى الجَدّة لتحقيق أمنيتها المؤجلة في رحلتها للاستجمام، هدية التبرّع التي تضاعفت إلى 440 ألف دولار إلى لحظة كتابة هذا السطر.

ما لفتني في القصة ليس في تمرّد الصبية أو حماقتهم وعرض خيبتهم على الملأ، وليس في جمع المال، وإن بلغ رقماً لا يستهان به لامرأة في وضع كارين وسنها، لا ليس هذا ما دفعني إلى التعليق على الحادثة، إنما هي ثقافة الاعتذار والرجوع عن الخطأ، بل ومحاولة إصلاحه بالطريقة الأنسب، فما حصل قد حصل، ولكن ما سيحصل بإمكاننا التخطيط له، هذا المفهوم الاستدراكي، وتلك الموضوعية، من أسباب نجاح الفرد أينما وجد، صينياً كان أم هندياً، عربياً كان أم غربياً. إنها المرونة المريحة التي لم تُغرس فينا منذ الصغر، لذلك ترانا نكبر ويشب عودنا وليس أصعب علينا من الاعتذار والتراجع عن موقفنا، وكأنه ينتقص من كرامتنا، ويشير إلى ضعفنا، مع أن العكس هو الأصح، ولكن من يفهم. فلا من يعتذر حشو عقله بهذا التقويم الرفيع لثقافة الاعتذار، ولا من يتلقّى الاعتذار على اقتناع أن المعّتذِر هو إنسان أرقى وأكثر وعياً، وإنما نختزلها بثلاث مفردات: «كسّرت راسه واعتذر»، لذلك نحن لا نعتذر وتأخذنا العزة بالإثم، فثقتنا المهزوزة بأنفسنا لا تسمح لنا بمساحة كافية للاعتذار، ولسان حالنا: «ليصلحها الزمن، وطالما أن الزمن سيصلح، فلم نبادر»!
 
أمّا المفارقة فهي أن نطالب غيرنا بالاعتذار إن كان الحق لنا، فماذا لو كان علينا؟ لو كان علينا فهذه وجهة نظرهم التي ليست بالضرورة أن تكون وجهتنا، إنها طريقتنا الشائعة في تحليل الأمور، أليس كذلك؟ ومنها إلى ثقافة عامة لا تُراجِع ولا تُصحِّح إلاّ إن كانت مغصوبة، ومن مغصوبة إلى معصوبة العينين، إلى عمى كلي، وقد كان جزئياً، وكانت الخسائر أقل، ولتسأل في ذلك كل من تأخر عن اعتذاره، وما كان صغيراً تراكم فتفاقم ولم يعد الاعتذار يحله.
 
وبالعودة إلى إيجابيات التقنية، وكما مارس الصبية مراهقتهم على امرأة في سن جَدّتهم، قام في أميركا صبية آخرون بإعداد برنامج بالإمكان تحميله على أجهزة الكومبيوتر أو الهواتف الذكية، ويُعنى بحالات التمرّد و«العِيارة» الثقيلة، فكل من يصادف موقفاً مماثلاً، فما عليه سوى أن يرسل برسالة إلى الموقع، فيسارع القائمون بالمعالجة الشافية التي قد تُعلِم الجهات الرسمية إن استدعى الأمر، وبمناسبة الحديث عن اعتذار الأبناء، ماذا نقول لمن يتصل بنا من المدرسة لينقل لنا خبراً عن اختلال مقاييس الاحترام لدى ابننا؟ خبر لا يرضينا، لكن العقل وعملاً لمصلحة الابن فلا بد - بل يجب - أن نقسوا عليه ونضم صوتنا إلى الحق ولو تطلّب اعتذاراً، طبعاً هذا هو السيناريو العاقل الذي لا تلتزم به إلاّ قلة، وحتى هذه القلة الشهمة تعود وتندم على التزامها به في مواقف كثيرة، فمن يعش في بيئة لا تثمِّن ثقافة الاعتذار، يصعب عليه الاستمرار في تبنِّي الخيارات العاقلة والمحايدة.
 
suraya@alhayat.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد