الحياة أحجية... تناتشنا أجزاءها فرادى... فتاهت منا جماعة !
شريعة المادة في هذا الزمان، حوّلت الإنسان إلى سلعة، وجعلت له تسعيرة، وقدّرته بثمن. وهذه التسعيرة لا تُقدَّرُ بحجم المؤهلات والثقافات والمواهب التي يمتلكها، كما كان الأمر متعارفاً عليه في الشرائع والأعراف، بل هي تسعيرة تُقَدَّرُ اليوم بحجم التنازلات المقدمة، وكلما كانت هذه التنازلات أكبر وأعظم، ارتفعت تسعيرتها وغلت أثمانها.
وللتنازلات أنواع وأشكال كثيرة، فمنها العقلي والذهني، حين يبيع الإنسان نتاج عقله وعلمه وخبراته وأبحاثه، من أجل حاجة قد تُقضى مؤقتاً، وما تلبث أن تعود لتتطلب منه تنازلاً أكبر وأعمق. ومنها الجسدي، حين يبيع الإنسان لحمه وشرفه وكرامته، من أجل ثراء أو شهرة أو منصب، وكل هذا من أجل مجد زائف، وصورة اجتماعية بالية، ومهما جهد صاحبها في تلميعها، فالصورة التي تلتقطها عيون الناس وتعلق في أذهانهم، هي انعكاس للسقوط والانحدار، والمزيد من النقص والتقزم.
والموضوع المطروح في هذا المقال، هو أن أثر تلك التنازلات السلبية، لم يتوقف عند حدود أولئك الذين اتخذوا قرارهم بتقديم التنازلات من أجل أثمان مدفوعة، بل شرّع فضاءات الوهم في العقول المريضة عند أصحابها القادرين على الدفع، لظنِّهم أن باستطاعتهم شراء أعزاء النفس، الذين لا يباعون ولا يُشرَون برخيص ملايينهم؟!
والمؤلم في زماننا العربي الحالي، أنه يضيء التشوهات الاجتماعية بقشورها البالية ويعممها، لتصبح هي القاعدة، وتصبح المبادئ والأخلاق والقيم من الشواذ. فالذاكرة أصبحت قصيرة، وعلى العيون حطت غمامة سوداء، خلطت بين الغث والسمين. فملامح النجاح في أذهان الناس أصبحت مرتبطة بكمِّ الأموال المدفوعة، وحجم التنازلات المقدمة. والسكوت عن هذا الأمر، قد يمنح الكثيرين ذريعة الامتثال إلى هذا الواقع البغيض، بحجة أن ظروف الحياة الصعبة، قادرة على قلب المعايير، وتغيير المبادئ.
والأسئلة الكثيرة التي تطرح نفسها هنا، وتُحيّر الذهن اليقظ... هو لصالح من يقوم أصحاب الأموال الضخمة بشراء الناس وبيعهم، واستبدال من هم أدنى بمن هم خير؟ أهو لزيادة ملايينهم؟ أم لحصد المزيد من الشهرة والمجد؟ أم لإرضاء رغباتهم الاستعبادية؟ أم هم مجرد أسماك كبيرة، في محيطات مليئة بالحيتان؟ هي أيضا قد تكون مسعّرة، تتنازل لتقبض، وتدفع لمن يتنازل، ربما من أجل خدمة سياسات خارجية، هدفها تقويض العقول العربية وتهميشها، والحد من انطلاقها والسيطرة على مضامينها؟ والسؤال المختلف الذي يتبادر إلى الذهن هو كيف ستكون الصورة لو سُخِّرت هذه الأموال لدعم وتطوير من يستحق الدعم، ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، كي يستمر ويبذل مزيدا من الجهد ويُعطي أكثر فَيَفيد ويستفيد؟!
وتتحمل المرأة الجميلة الناجحة والحرّة في الوطن العربي على وجه الخصوص، وزر التنازلات التي تقدمها بعض بنات جنسها وتبعاتها، فتصبح هي الأخرى في نظر تجار البشر وأصحاب الأموال مشروع تنازل، ويُلمَّح لها بصفقة البيع والشراء، للانقضاض عليها. وعلى الرغم من أن المرأة الحرّة، قادرة على إفشال تلك الصفقات، وتقزيم أصحابها وردعهم، وردهم خائبين، إلا أن هذا الأمر يغضبها، ويثير حنقها، ويؤثر فيها معنوياً، خصوصاً عندما تشعر بأن هناك إنساناً لمجرد أنه يملك المال، يظن أنه قادر على شراء من لا يُقدَّر بأثمان، وكل ذلك بسبب من اتخذن قرارات بيع أنفسهن، فبخست أثمانهن وربحن الرخيص!
إن صفقات البيع والشراء، التي يكون سلعتها الإنسان، هي وجه بارز من وجوه الفساد المستشرية في الوطن العربي، فنجد أن أصحاب المؤهلات والخبرات والكفاءات، القادرين على اتخاذ القرارات التي ترقى بمجتمعاتنا وتعِدنا بمستقبل أفضل... والذين يجب أن يكونوا على رأس الإدارات والمؤسسات، يقودهم من هو أدنى منهم علماً ومؤهلا وخبرة، فيكفي أن يُطأطئ رأسه ويُقر ويوقع وينفذ الأوامر بصمت، ليحظى بأعلى المراكز، مما يؤدي إلى الإحباط والتخاذل، وبالتالي تقديم المزيد من التنازلات.
أجد نفسي هنا عاجزة عن تقديم الحلول السحرية في كلمات، ولكن، كلّ ما أتمناه أن نبدأ بأنفسنا، وتكون لنا يدٌ طولى في إحداث التغيير، لا أن ننتظر ما سيأتي، ونتأقلم معه كما قُرر لنا، حتى لو كان يتطلب منا مزيدا من التنازلات. وكل ما أستطيع قوله هو أن الغد ... يحوّل اليوم إلى أمس ... ويؤسّس إلى بعد غد يشبهه.