الحمد لله وحدَه ، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعدَه ، وعلى آله وصحبه الذين اقتفوا أثره وحفظوا عهدَه ؛ وبعدُ ..
فإنّ البحث في عموم ودقائق (مسائل التكفير) منوطٌ بالراسخين في العلم، المطّلعين على مناهج علماء السلف في تناولها وتداولها؛ لا بالساخرين من العلم وأهله! ، ولا المعطّلين للآثار والأخبار عن العلماء الأخيار ؛ ذلكم أنّ تكفير المسلمين ، وإخراجهم من الدّين أمرٌ شديد الخطورة ، وعند أهل التقى من المسائل المحذورة ، وله من التبعات والعواقب على المجتمعات المسلمة ما لا يُحْمد أو يَخْمد : كإزهاق الأنفس المعصومة من بارئها، ودمار الأوطان و فسادها وخرابها ، ويجرّ الفتنَ المُهلكة ، والمحنَ المُنهكة ؛ فضْلاً عن غضب الله – تعالى - وعقابه لمن كفّر مسلماً بريئاً ؛ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه [رواه الإمام مسلم] ، وقال : لا يرمي رجلٌ رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك [ رواه البخاري] ، وقال – عليه السلام - : .. ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه [ رواه مسلم ] .
قال ابن عبد البر في كتابه ( التمهيد ): فالقرآن والسنة ينهيان عن تفسيق المسلم وتكفيره ببيان لا إشكال فيه، ومن جهة النظر الصحيح الذي لا مدفع له أنّ كلّ من ثبت له عقدُ الإسلام في وقت بإجماع من المسلمين ثم أذنب ذنباً أو تأول تأويلاً فاختلفوا بعدُ في خروجه من الإسلام ؛ لم يكن لاختلافهم بعد إجماعهم معنى يوجب حجةً ، ولا يخرج من الإسلام المتفق عليه إلا باتفاق آخر أو سنة ثابتة لا معارض لها، وقد اتفق أهل السنة والجماعة وهم أهل الفقه والأثر على أن أحداً لا يخرجه ذنبُه - وإن عَظُمَ - من الإسلام وخالفهم أهل البدع، فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا إن اتفق الجميع على تكفيره ،أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة .
لقد بدأت تطفو على السطح ( شنشنةٌ !) قديمة تتعلق بمسائل التكفير؛ حملت بعضُ وسائل الإعلام (مَهمة !) إظهارها ، والاستفاضة في إشهارها من منطلق ( حريّة التعبير! ) ، ومن خلال الاستضافة - باللقاءات والمقالات! – لبعض دعاة الإصلاح المطالبين بـ (التغيير !) ، أو المنظّرين من ( الجماعات الإسلاميّة ) التي بدأت تنشط ( إعلاميّاً ) ، وتبذل جهداً دعويّاً ( مميّزاً ) يهدف إلى بيان مناهجها، ونشر عقائدها وفكرها .
ومع عظم المسائل المتعلقة بالتكفير فإنّ جُلّ أولئك الذين يرفعون رؤوسهم بالكلام فيها ؛ يفتقرون للعلم الصحيح ، ومسالك علماء الإسلام في بحث هذه المسائل العظام ؛ ذلكم أنّ الواحد منهم يستمسك بالدلالة الظاهريّة للنصوص من الكتاب والسنة ، والمتشابه من أقوال العلماء ؛ودون النظر والتحقيق – عند إطلاق حكم التكفير – في الأسباب والشروط والضوابط الشرعيّة التي قرّرها المحققون من أهل العلم وفصّلوها في كتبهم ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : وليس لأحد أن يكفر أحداً من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة، ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة .
وخلاصة القول : إنّ حكم التكفير كسائر الأحكام الشرعيّة ؛ مردّه إلى الله – تعالى – ورسوله – صلى الله عليه وسلم - ، ومسائله تحتاج إلى التحرّي والتحقيق، والتحرير والتدقيق ؛ وإذ الأمر كذلك فينبغي – حتماً – أن يتولى بحثها من كان عالماً بالكتاب والسنة ، ولسان العرب ، وأقاويل أهل العلم ، والاستنباط والاجتهاد ؛ أضف إليه فهم الواقع، والتبصّر بالأحوال القائمة والأحداث العامة .
وأمّا أن يوسد الأمرُ- أو يُترك! – إلى أدعياء العلم أو المبتدئين فيه ، أو أصحاب النّزَعات الحزبيّة والطائفية فهذا مدعاة للشرّ ، ويفضي إلى التناحر بين الأخوة في الدين و الإفساد ، واختلال أمن البلاد ، أو اعتلال عقائد العباد ؛ فيتفرق الناس – بسبب الشبهات المتعلقة بالتكفير- إلى غلاةٍ مُتشدّدين ، أو جُفاةٍ مُتساهلين ؛ فتبتعد الأمة – شيئاً فشيئاً – عن الوسطيّة التي زكّاها اللهُ – تعالى - بها فقال : { وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على النّاس ويكون الرّسولُ عليكم شهيداً } .
عند التفكير في منهج أولئك الغلاة المفتونين بتكفير المسلمين – حكاماً ومحكومين – نجدهم ملتزمين خطوطاً متشابهةً ؛ لا يَحيدون فيها عمّا رسخ في عقولهم ، واستقر في نفوسهم من ( تقارير التكفير ) ، ولا هم يُجيدون مقارعة الأدلة والحجج عند المخالفين ، أو الأقوال الناقضة لمنهجهم والتي تصدر عن الأئمة العارفين ؛ وغالباً ما يقابلونها بتضعيف أسانيدها ، أو بالتأويلات الفاسدة لها ؛ ولو خالفوا – في هذا وذاك – أهلَ الفقه والدراية، وأصحابَ الحديث والرواية .
وليس هذا فحسب ؛ بل تراهم يرمون المخالفين لهم من أهل العلم بتهم التمييع ، والإرجاء ، والتخاذل ، أو وصفهم بعلماء السلاطين ؛ بلا علم وتفكّر ، أو فهم وتبصّر ؛بل بالجحود والتنكر ، والجمود والتكبّر ؛ وبلا اعتبار – أيضاً – لموافقة هؤلاء العلماء لمن سبقهم من جهابذة العلم المتقدّمين ؛ فيطعنون فيهم من حيث لا ينتبهون ؛ لكنّه التذرّع بضروريات ( الولاء والبراء ) في دين الإسلام ، والتسرّع بإطلاق الأحكام ؛ أما ( الولاء والبراء ) فلو كان على ما قرّره أهل الفقه والنظر من أحكام وقواعد لقلنا ، وأما التسرّع في إصدار الأحكام فهو أساسُ نشوء الزلل ، وطروء الخلل .
وأمرٌ آخر يمتاز به غلاة التكفير وهو الميلُ – غالباً – نحو طرح المسائل ذات العلاقة بتكفير الحكام والتركيز عليها ؛ أو إثارة شبهات التكفير حوله ؛ ومعلومٌ أنّ تكفير الحكام هو أشدّ خطراً من تكفير غيرهم من الأعيان – وفي كلّ خطرٌ بادٍ للعيان- ؛ وذلك لما فيه من التحريض على التمرد والعصيان ، وما قد يتبعه من حمل السلاح ، وسفك الدماء ، وفساد البلاد والعباد وتدمير البنيان .
لسنا هنا لتوضيح المسائل التي بحثها أهل العلم حول أحكام التكفير – مع الأهمية المطّردة لهذا – والتي تكشف عوار المنهج القائم عند غلاة التكفير ؛ ولكن ألا نسأل أولئك : ما هي المصالح الشرعية المرجوة من وراء ( الطرح الإعلامي المُستهتر! ) لمسائل التكفير أمام العوام ؛ مع انتشار الجهل بين الناس ، واضمحلال العلم ، والتفرق والتحزّب ، واتّباع الهوى ، وغير ذلك مما ابتليت به أمة الإسلام حتى أوهنها وصارت إلى ما ترونه اليوم ؛ ولا أجد لي – ها هنا – بُدّاً من ذكر كلام مفيد ، وتأصيل فريد يناسب المقام الذي نحن فيه ، ويثري ما نحاول أن نحتويه ، وهو مقتبس – بتصرف يسير- من حديث طويل حول ( تكفير الحكام ) للمحدّث الإمام محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – حيث قال :
ماذا تستفيدون أنتم من الناحية العملية إذا سلّمنا – جدلاً – أن هؤلاء الحكام كفارٌ كفر ردة ؟! ماذا يمكن أن تصنعوا وتفعلوا ؟!
إذا قالوا : ولاء وبراء ؛ فنقول : الولاء والبراء مرتبطان بالموالاة والمعاداة – قلبية وعملية – وعلى حسب الاستطاعة ، فلا يشترط لوجودهما إعلان التكفير وإشهار الردة؛ بل إن الولاء والبراء قد يكونان في مبتدعٍ ، أو عاصٍ ، أو ظالم.
ثم أقول لهؤلاء : ها هم هؤلاء الكفار قد احتلوا من بلاد الإسلام مواقع عدة ، ونحن - مع الأسف - ابتلينا باحتلال اليهود لفلسطين؛ فما الذي نستطيع نحن وأنتم فعله مع هؤلاء ؟! حتى تقفوا أنتم – وحدكم – ضد أولئك الحكام الذين تظنون أنهم من الكفار.
هلا تركتم هذه الناحية جانباً ، وبدأتم بتأسيس القاعدة التي على أساسها تقوم قائمة الحكومة المسلمة ، وذلك باتباع سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلّم- التي ربّى أصحابه عليها ، ونَشّأهم على نظامها وأساسها ؟
لا شك أن الطريق الصحيح هو ما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يدندن حوله ، ويُذكّر أصحابه به في كل خطبة : ( وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم)
ذلك لأننا نعلم حقائق ثابتة وراسخة يغفل عنها – أو يتغافل عنها – أولئك الغلاة ، الذين ليس لهم إلا إعلان تكفير الحكام ، ثم لا شيء ! ؛ وسيظلون يعلنون تكفير الحكام ، ثم لا يصدر منهم – أو عنهم – إلا الفتن والمحن !!.
كل هذا بسبب مخالفة هؤلاء لكثير من نصوص الكتاب والسنة ، وأهمها قوله- تعالى- :{ قد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}.
إذاً ؛ لا بد أن نبدأ نحن بتعليم الناس الإسلام الحق ، كما بدأ الرسول- عليه الصلاة والسلام - ؛ لكن لا يجوز لنا الآن أن نقتصر على مجرد التعليم فقط ، فلقد دخل في الإسلام ما ليس منه ، وما لا يمت إليه بصلة ، من البدع والمحدثات مما كان سبباً في تهدّم الصرح الإسلامي الشامخ .
فلذلك كان الواجب على الدعاة أن يبدؤوا بتصفية هذا الإسلام مما دخل فيه ؛هذا هو الأصل الأول .
وأما الأصل الثاني : فهو أن يقترن مع هذه التصفية تربية الشباب المسلم الناشئ على هذا الإسلام المصفى .
ونحن إذا درسنا واقع الجماعات الإسلامية القائمة منذ نحو قرابة قرن من الزمان ، وأفكارها وممارساتها ، لوجدنا الكثير منهم لم يستفيدوا – أو يفيدوا – شيئاً يذكر ، برغم صياحهم وضجيجهم بأنهم يريدونها حكومة إسلامية ، مما سبب سفك دماء أبرياء كثيرين بهذه الحجة الواهية ، دون أن يحققوا من ذلك شيئاً ؛ فلا نزال نسمع منهم العقائد المخالفة للكتاب والسنة ، والأعمال المنافية للكتاب والسنة ، فضلاً عن تكرارهم تلك المحاولات الفاشلة المخالفة للشرع .
لعل فيما ذكرتُ مقنعاً لكل مُنصف، ومنتهىً لكل مُتعسّف .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين