مصر والجيش والحكومة الانتقالية

مصر والجيش والحكومة الانتقالية

06-08-2013 05:16 PM

أثبت عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع المصري الذي عينه محمد مرسي، رئيس مصر المنتخب، أنه ليس عسكريا حاسما، وليس سياسيا بارعاً. إنه نصف عسكري ونصف سياسي وتلك خلطة لن تقود إلى النصر في أي معركة عسكرية، أو سياسية.

أعلن السيسي قبل يومين أنه "لا شهية له في الحكم، وأنه لن يترشح للرئاسة"، وفي خضم الاضطراب العالمي الذي سببه انقلابه على الشرعية، بدأ السيسي يتخبط، فيتقدم خطوة ويتراجع ثلاث خطوات، ويجتمع بممثلي أنصار الشرعية، وبعد ذلك يهدد بإنهاء الاعتصامات في ميادين القاهرة بالقوة. ثم يتراجع ويطلب تدخل الولايات المتحدة دون الرجوع إلى رئيسه عدلي منصور، الرئيس الانتقالي الذي عينه هو شخصيا. وقد تكللت مسرحية السيسي السياسية الهزلية بتوجهه "للشعب" طالبا التفويض (والأمر أيضا كما قال في كلمته) لكي يواجه الإرهاب المحتمل. تجمع له في ميدان التحرير من رأى أنهم قد فوضوه. انفض المفوِّضون من ميدان التحرير، وبقيت الميادين الأخرى تموج بمئات آلاف المصريين بتصميم وانضباط أذهلا العالم. ومن الملفت للنظر أن وزير الدفاع لم يطلب التفويض من الرئيس الانتقالي، وتلك مصادفة تشير بقوة إلى أن طاقم الرئاسة الانتقالي لا وزن له في نظر السيسي. ولم يستقل الرئيس الانتقالي لهذا التعدي على صلاحياته من وزير دفاعة، كما لم يستقل البرادعي، نائب الرئيس، بل حاول إلى ناطق باسم الجيش للفوز ببعض الضوء على الأقل إعلاميا في ظل الجنرال.

كانت الخطوة التالية بعد مهزلة التفويض، قتل ما يزيد على ثمانين مواطنا مصريا في ميدان رابعة العدوية، وجرح المئات في السابع والعشرين من يوليو/تموز الماضي. فتراجع السيسي أمام رد فعل الولايات المتحدة الحاسم حيث طالبته باحترام حق الشعب في التعبير عن رأية بالتظاهر. وجاء رد الاتحاد الأوروبي قاصما وفي هذا السياق أيضا.

وجد السيسي نفسه أمام شعب مصمم على عودة الرئيس المنتخب، مدعوما بأنصار الحرية والديمقراطية في الغرب.

فتراجع السيسي مرة أخرى ليدخل في أزمة دبلوماسية أعمق حين صرح أن وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هاغل، يتصل به بصورة شبه يومية، وأبدى عتبه أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي لم يتصل به مطلقا. في تصريح السيسي هذا دليل ساطع أنه لا يعرف قدر نفسه، ولا قدر غيره، وليس للبروتوكول السياسي وجود في رصيده المعرفي أو العملي. وحملت مقولته تلك شهادة تفصح أن حظه من السياسة محدود، ويمكن القول باطمئنان أن حظه من الانضباط العسكري قليل أيضا، وإلا لم يكن ليتخبط بهذه الرعونة. حتى مقولاته التي يحاول إضفاء هالة على نفسه من خلالها تتحول ضده. فحين أراد أن يجنب نفسه والجيش الذي يقوده الوقوع في دائرة الانتقاد صرح قائلا: "الجيش المصري جيش أسود، والأسود لا تأكل أولادها"، ونسي أنه دفع ببعض الجنود وبعض أفراد الشرطة مدعومين بجوقة بلطجية لقتل المتظاهرين في رابعة العدوية.

السيسي يشعر بطوق ضريه هو شخصيا حول نفسه من ثلاث جوانب: الإقدام على قتل معتصمين؛ إغفال الرئيس المؤقت وطاقم الرئاسة كليا؛ والسقوط في هفوة الرغبة في أن يقوم أوباما بالاتصال به تليفونيا. هذه المثالب الثلاث قد تدفع بالرجل إلى محاولة كسر طوقها برعونة تخلق عاملا صادما رابعا. السيسي لا يرى أنه بحاجة لأي استشارة أو مستشار، فهو لم يستشر أحدا، ولم يطلب من البرادعي التحدث باسم الجيش، بل قام البرادعي بذلك تطوعاً.

تقلصت كل الفرص والمنافذ الدبلوماسية أمام السيسي ومعه الرئاسة الانتقالية المعينة. فطوفان الوفود الأمريكية، والأوروبية، والإفريقية، ولنقل (أخيرا) العربية أيضا قد أربكه تماما. وأصبح السيسي أكثر ميلا للعزلة في انتظار الخطوة السياسية الحاسمة التي ستتخذها الولايات المتحدة بعد الزيارة الحاسمة التي سيقوم بها السيناتور جون مكين والسيناتور ليندسي غراهام. ومن الغريب أن السيسي لم يضع نفسه تحت مظلة الرئاسة الانتقالية التي عينها بنفسه، بل بقي مصرا على مقابلة الوفود بمعزل عن الرئاسة، والأغرب أن الرئاسة نفسها لم تنتقد وترفض تصرفات السيسي تلك، وتركت الأمور على عشوائيتها معتمدة على الحظ والمنطق السقيم القائل: إن جائنا أحد سنقابله. في مثل هذا الوضع المنحرف ربما تسلق البرادعي السلم واقترب خطوة أخرى من السيسي بتقديم عربون وفاء له بالقيام بالترجمة للسيسي.

يحدث هذا في مصر الدولة العريقة، ويُذكر بهنات دبلوماسية حسني مبارك حين جاء باراك أوباما إلى القاهرة في بداية فترة رئاسته الأولى لمخاطبة الأمة الإسلامية. حسني مبارك لم يستقبل الرئيس الأمريكي في المطار، وانتظره في قصر القبة، والأدهى وأمر أنه أيضا لم يرافق الرئيس الأمريكي إلى جامعة القاهرة حيث سيلقي خطابه. كان المشهد مسيئا لمصر بشكل شنيع. فشلت الرئاسة المصرية في قراءة اللحظة التاريخية المتمثلة في "اختيار الرئيس الأمريكي الجديد للقاهرة لتكون منبرا لمخاطبة العالم الإسلامي".

حسني مبارك نفسه ذهب في عهد الرئيس بوش إلى مكتبة الاسكندرية عام 2005 ليطمئن أن عصابات كتبة التقارير المشاركين في المؤتمر لن يدعموا الدعوة الأمريكية للإصلاح في العالم العربي. وفعلا، خرج المؤتمر كما رغب حسني مبارك بتوصية ذليلة تقول أن "الإصلاح من الخارج مرفوض"، ولم يشرعوا ولم يوصوا بإصلاح من الداخل لإنقاذ الأمة، فكان لا بد من طوفان "الربيع العربي" لتخليص الشعوب من متكلسات العقود.

يحاول السيسي أن يكتب سطرا في صفحة من تاريخ مصر، لكن يبدو أن مهاراته في الكتابة لا تتعدى كلمتين: التخبط، والجهالة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد