مصر: إلى أين بعد ذلك؟

مصر: إلى أين بعد ذلك؟

13-08-2013 05:42 PM

إن ما يجري في مصر اليوم ليس مقلقا على مصير مصر فقط، بل يقرع أجراس الخطر على مستقبل الشرق الأوسط، وأمن العالم برمته.

إن تدخل "الخونتا" (أو الجونتا) العسكرية في الشؤون السياسية المصرية يفتح الباب لعودة القمع، والحرمان، والفقر، والإثراء الفاحش على حساب العدالة في توزيع الثروة ومعالجة البطالة،والتنمية. وهذا ما سيفتح الباب مشرعا أمام  نمو الإرهاب، وكراهية الغرب بعد تفشي الحرمان الذي ينبع من الاختلاط البشع بين العسكر والمنتفعين المدنيين.

في وضع كهذا سيعود الفساد، وستصبح مكافحة الفقر رفاهية يقوم بها فاسدون. وستنطلق جحافل المنتفعين نحو الإسراع ب"الخصخصة" للسلب والنهببدعوى التنمية، وتشويه كل شيئ خدمة لمصالح الطغمة. دعاوى لا تتسق مع الواقع والطموحات المكبلة بتشوهات تدني الخدمات الاجتماعية، ابتداءً من الخدمات الصحية، والتعليمية، وصولا إلى رعاية الإيتام وذوي الحاجات الخاصة في أدنى سلم الاهتمامات.

لقد أخطأ الإخوان المسلمون خطيئة كبرى، كان من السهل تجاوزها، وهي التفرد بالسلطة والاعتقاد أن تمتعهم بالأغلبية حصانة تمنع الخروج عليهم. فاتهم جذب كتل سياسية أخرى للمشاركة في الحكم وبناء الدولة الحديثة، دولة تقوم على تحالف مختلف القوى السياسية،ولو من خلال التضحية بما يمكن أن يكون صعبا تصوره كإعطائهم وزارات سيادية كالخارجية، أو الداخلية، أو المالية، أو الزراعة والمياه (وهي وزارة هامة جدا في مصر)، أو وزارة التخطيط. لو فعل الإخوان ذلك لتغيرت الصورة النمطية عنهم، ولكتشفوا أن النظام الديمقراطي التعددي سيضع هؤلاء الوزراء أمام المحاسبة والمراقبة التي يقوم بها البرلمان أو مجلس الشورى (والفرق بين الاسمين لغويا فقط). مرة أخرى لو فعل الإخوان ذلك لاتضح لهم عِظَمِ قوة التعددية السياسية.

دخلت مصر منطقة الأعاصير، وسيطر الجيش على السلطة متسترا ببعض المدنيين، وعاد الإخوان وبعض الجماعات والحركات الإسلامية إلى الميادين، ومواقع المعارضة والمطالبة بعودة الشرعية.الفريق عبدالفتاح السيسي والرئيس المؤقت، اللذي نصبه لا يريان أنهما انتهكا شرعية اعترف بها العالم. لا شرعية في عقيدة السيسي سوى تلك التي تحميها القوة، ولذلك فهو يرى نفسه حاكما شرعيا مفوضا من جماعات يسارية (اشتراكية وشيوعية)، وقومية وجمهرة لا بأس بها من المنتفعين والمرتزقة والبلطجية ممن جُلبوا وتجمهروا في ميدان التحرير لمنحه تفويضا (وأمراً أيضاً) لمقاومة "العنف والإرهاب المحتمل"(!). السيسي لا يريد أكثر من تلك الشرعية وإن بدى هُزالها. إن ما يعيق السيسي اليوم عن استخدام القوة وسحق المعتصمين في ميدان رابعة العدوية أو ميدان النهضة، أو ميادين الاسكندرية، وأسيوط، والفيوم، والمنيا، والسويس، والعريش، هو الرأي العام العالمي. وبوضوح أكبر إن السد الكبير الرادع في وجه القوة العسكرية (القوة الخشنة)، يتمثل في الفيسبوك، واليوتيوب، والتليفونات الخلوية، والفضائيات (القوة الناعمة). إن الرقابة العالمية من خلال الفيسبوك ويوتيوب وتويتر لا تمنح العسكر فرصة القيام بمجزرة صامتة في ليلة ظلماء كما كان الحال متوفرا، ومريحا، وملائماللانقلابات العسكرية التي نُكِبَ بها العالم العربي قبل العولمة، في فترة الحرب الباردة في عالم "ثنائي القطبية". اليوم، يعلم السيسي أنه إن فعل ذلك سيُجلب إلى لاهاي ليجلس حيث جلس ميلوسيفتش، ولن ينفعه النحاس المكدس على كتفيه.

إن اختطاف الرئيس المصري المنتخب، وإلغاء الدستور، وحل مجلس الشورى(البرلمان) قد عطل تطور مساراً سياسيا مميزاً في مصر وفي الشرق الأوسط برمته. واستبدل السيسي مؤسستي الرئاسة والبرلمان في مصر بقرارات تصدر عنه شخصيا، مغلفا نفسه برئيس للدولة ونائب له ليس بمقدورهما عقد مؤتمر صحفي، أو مقابلة وفد أجنبي، أو حتى محلي دون موافقة ذاك الضابط.

من المصادفات (المتقاطعة) أن الجنرال عبدالفتاح السيسي لن يكن مقبولا كشخصية سياسية بين بقية الزعماء العرب، لعدة أسباب أهمها أنه أول ضابط انقلابي يبرز في زمن الربيع العربي، فهو في نظرهم يُغري أو لنقل يُقدم نموذجا للعسكريين الحاقدين، أو للطامحين من الضباط في بلدان عربية أخرىللانقلاب، يفتح شهيتهم ويعيد لذاكرتهم الرؤساء"الضباط الثوريين" والرؤساء "القوميين العرب"، وزمان التطرف القومي والأيديولوجي، منذ جمال عبدالناصر، مرورا، بعبدالكريم قاسم، ومعمر القذافي، وحافظ الأسد، وصدام حسين وغيرهم. لكن من ناحية أخرى هناك بعض الحكام العرب ينظر إلى السيسي ويتقبله لسبب آخر هو تصديه لبروز الإخوان المسلمين كفوة رئيسية تملك زمام الأمور في مصر. لذلك فإن مصر اليوم تقف مجمدة في انتظار قرار يصدر من الخارج لفك عقالها، وتقف الجامعة العربية عاجزة عن لعب أي دور في المعضلة المصرية، ليس لأي سبب آخر سوى انشقاق اعضائها.

يقف العرب مكبلين، ليس فقط أمام المعضلة المصرية، بل أيضا أمام مؤامرات إيران في البحرين، وسورية، وشمال اليمن، ولبنان، والسودان، وشرق السعودية، وفي الصومال. كما يقفون مجمدين أيضا أمام طموحاتها النووية التي إن نجحت سيجد العرب أنفسهم مهددين بسيفين نووين: سيفاًنوويا بيد إسرائيل، وسيفاًنوييا بيد إيران. في تلك الحالة سيدفع توازن الرعب المتبادل (أو الدمار المتبادل) بإسرائيل وإيران إلى التفاهم وتقاسم النفوذ في الشرق العربي بأسره. وستتغير خارطة الإقليم العربي لقرون ستأتي، وربما إلى الأبد.

لقد دفعت قضية سنودن نحو تشنج يُذَكِّرُ ببعض اللحظات السياسية في فترة الحرب الباردة بين روسيا والولايات المتحدة. قضية سنودن وقضية المذابح اليومية التي يقوم بها الأسد في سورية، ومصير الاعتصامات في ميادين المدن المصرية، وما يخطط له العسكر في مصر أيضا، والتنافس المكتوم في أسواق النفط والغاز العالمية بين المصدرين والمستهلكين، وتنامي الإرهاب الذي فرض إغلاق أكثر من عشرين سفارة أمريكية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتشيلات العسكرية-الاقتصادية-الأمنية القارية التي بدأت تبرز لتشمل دولا من قارات مختلفة مثل "بريكس";BRICS ومنظمة شنغهاي للتعاون ;SCO  و"ميست" MIST ، ومحاولات كسر الأحادية القطبية العالمية، والتنافس على الأفضلية في آسيا الوسطى بين عمالقة الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى مستقبل الشرق الأوسط، كلها قضايا تهدد السلم العالمي وتدفع بالعالم كله نحو مواجهة وانقسام عصيبين. الشرق الأوسط، وخاصة العالم العربي، يتأثر أكثر من غيره بكل تلك القضايا التي تؤثر على مصيره السياسي، والاقتصادي، والأمني، والعسكري.

لم يستطع نظام الإخوان المسلمين القائم على دعامات حزبية إسلامية فقط التعامل مع القضايا الاجتماعية-الاقتصادية، كما لم يستطع الإخوان إحتواء بقية الأحزاب السياسية والجيش أيضا. كانت الكاريزما اللازمة للقيادة موجودة لدى جماعة الإخوان المسلمين ككتلة، لكن الكاريزمالم تكن موجودة لدى الرئيس الذي أفرزته الكتلة بعد فوزها في الانتخابات. لا بد من الإشارة هنا إلى أن تعاطف الشعب كان مع حركة الإخوان المسلمينبشكل عام، ولم تكن مع قيادة تفتقر إلى الكارزمية.القيادة التي أفرزتها حركة الإخوان المسلمون ودفعت بها للقيادة لم تكن معروفة لدى غالبية الجماهير قبل فوز كتلة الإخوان في الانتخابات. كان التعاطف الشعبي العفوي مع الحركة منبعه التاريخ الدامي الذي عانت منه جماعة الإخوان المسلمين طويلا منذ الملك فؤاد، والملك فاروق، والرئيس جمال عبدالناصر، والرئيس أنور السادات وحسني مبارك. كان التعاطف يفتقر إلى برنامج سياسي-اقتصادي-اجتماعي نهضوي تتبناه حركة الإخوان، يقوده قائد لديه رؤية شاملة للتغيير في جذور المجتمع والاندفاع بمصر في عالم معولم مترابط أمنيا واقتصاديا، ويمكن القول مترابطاً في كل مفاصل الحياة البشرية ابتداءا من الصحة والبيئة وصولا إلى مبادئ السيادة الوطنية.

لم يدرس الإخوان المسلمون التجربة التركية رغم عقدين كاملين من تفاعل التجربة التركية بين العسكر (أنصار العلمانية) والسياسيين (الإسلاميين) في أنقرة، علما بأن ضباط الجيش المصري أكثر تدينا من الضباط العلمانيين الأتراك، وهذا يعني أنهم أقرب إلى تفهم برنامج الإسلاميين المصريين والاتفاق حول النهوض بمصر بجناحين: إسلامي وعلماني. لا جدال أن الفارق بين التجربة التركية والحالة المصرية كبير، لكن بلا جدال هناك خطوط مشتركة يمكن الاسترشاد بها، ودروس مفيدة وموَجِهَة أغفلها الإخوان المسلمون في مصر واعتمدوا على خبرتهم التنظيمية الطويلة عبر رصيدهم وتجربتهم التي تكدست عبر كفاح طويلداخل مصر. كان ذلك مفيدا لكنه لم يكن كافيا. وليس ضربا من المغالاة إن قلنا أنه كان يجب على الإخوان المسلمين دراسة تجارب الأحزاب المسيحية الألمانية ودورها قبل وحدة ألمانيا وبعد الوحدة لإثراء تجرتهم وطروحاتهم. وفي معرض المقارنة نذكر أن الإخوان المسلمين لم يذهبوا عميقا في فهم تجربة الخميني، وكيفية نجاحه في تحييد القوة العسكرية الهائلة التي كانت تأتمر بأمر الشاه، وتعطيلها واستمالتها.

لو نجح الإخوان المسلمون في استيعاب القوى السياسية المصرية وقيادة مصر نحو العدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والمساواة، والفصل بين السلطات، فإن ذلك سيقدم للعالم شهادة تدفع القوى العظمى: الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا والصين إلى القبول بنجاعة النظام السياسي الإسلامي المنفتح في مصر وفي غيرها في عصر العولمة والانفتاح.

هناك أسس ودعائم مشتركة بين الإسلام والرأسمالية أهمها قدسية الملكية الخاصة، والحريات الشخصية، وحياة الإنسان.هذه المبادئ وغيرها مما هو أعمق وأقوى من المبادئ المشتركة بين النظامين لو روعيت لخلقت مناخا تصالحيا بين الشرق العربي والغرب. لكن الانزلاق خلف القول الخاطئ المدمر القائل "الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيان أبداً" سيبقى غيمة عدم التفاهم تُعشي الأبصار، وتُعطل العقول.

قبل ثلاثين عاما كان تصور انهيار الاتحاد السوفييتي ضربا من الخيال، حدثت المعجزة دون حرب، وغيرت وجه أوراسيا وغيرت خريطة أوروبا وآسيا، وغيرت استراتيجيات عالمية، وخلقت تحالفات جديدة لم تكن في الحسبان. وقبل عقد من الزمان كان ضربا من الجنون تصور أن يصل إلى رئاسة مصر عضوا من جماعة الإخوان المسلمين:حدثت المعجزة، لكنها لم تعش طويلا ولم تساهم في تغيير وجه مصر.

إن منجاة مصر اليوم ليست في الاستجابة للمحرضين الذين تحركهم مصالح شخصية وهم كُثرُ في الفضائيات المصرية، بل في إتلاف سياسي يشكل حكومة تعددية متزنة من الطرفين  للخروج بمصر من محنتها ويفتح أمامها سبل التنمية والنهوض والقيادة والوحدة.

Gali.tealakh@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد