التدخل الاقليمي والدولي: الوطن العربي في ذمة المجهول

mainThumb

07-10-2013 06:33 PM

يُشكّل الوطن العربي المكان المؤهل حالياً لإعادة إطلاق جولات الكر والفر في السياسات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط المشتتة والواهنة. فعلى المستوى الدولي تعتبر عودة الدور الروسي النشط إلى المنطقة من خلال الأزمة السورية وتداعياتها التطور الأهم والأبعد تأثيراً بعد أن انفردت أمريكا بهذا الدور منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. والدور النشط على المستوى الإقليمي لكل من تركيا وايران هو انعكاس طبيعي للضعف العربي العام وغياب قوة عربية مركزية تعبء الفراغ الذي تركته مصر بعد عبد الناصر أو العراق بعد صدام حسين. في هذا الخصوص قامت كل من تركيا وايران باستغلال الرابطة الأهم مع دول المنطقة ألا وهو الإسلام بتفرعاته المختلفة سواء السنية أم الشيعية. وإذا كان اختلاط الحابل بالنابل يعني شيئاً فإنه يعني في هذه الحالة الفوضى وفقدان القدرة على الاستشراف.

إن خلط الأوراق يختلف اختلافاً جذرياً عن اختلاطها . وخلط الأوراق عادة ما يكون نتيجة جهد مرسوم أو مخطط له، في حين أن اختلاط الأوراق يعبر عن حالة من الفوضى ناتجة عن تداخل الأمور بشكل عشوائي. والوطن العربي يمر الآن بمرحلة من اختلاط الأمور بشكل يقترب من حالة فوضى متفاقمة قد تطيح بالمسلمات وتُدخلها في عالم التيه والمجهول بل واللا معقول إلى الحد الذي لا يجرؤ فيه أحد على التنبوء بالنتائج بشكل علمي ودقيق ضمن تطورات تفتقر إلى المنطق .

الصراع الدائر في المنطقة بين قوى الإصلاح والتغيير من جهة وقوى الحفاظ على الوضع القائم (status quo) من جهة أخرى قد حسم مبدئياً وإن كان بشكل عجيب. قوى الإصلاح والتغيير لم تنتصر ولكن قوى الأمر الواقع لم تنتصر أيضاً وكلاهما لم ينهزم في الوقت نفسه . وهكذا نشاهد تبلور حالة من الفوضى التي انطلقت من أهداف نبيلة وانتهت إلى ما انتهت إليه من كوارث وأزمات تعصف بالمواطنين والأوطان .

في البداية يجب التأكيد على أن أي محاولة لفهم ما جرى ويجري في دول “الربيع العربي” يجب أن تنطلق من عنوان المرحلة وهو “الربيع العربي” . فهذا العنوان البعيد عن الواقع رفع سقف التوقعات لدى الجماهير بشكل زائف وجعل المعظم يتوقع الورود والزهور والمعجزات في مرحلة ما بعد الإطاحة بالنظام القائم في هذا البلد أو ذاك. ولكن الأمور لم تجر بهذه الطريقة . ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الأزمات التي رافقت عمليات التغيير وتبعتها ليس لها أي علاقة بفصل الربيع الجميل. فباستئناء تونس ، فإن الإطاحة بالأنظمة كانت عملية دموية بدرجات متفاوتة وكانت مُغلّفَة بالفوضى وفقدان البوصلة والقدرة على الاستشراف.

سقوط الحكم في مصر بيد الإسلاميين كان هو الحدث الأكبر والذي شمل في آثاره وأبعاده الدائرتين العربية والإقليمية. وانطلاق الثورة في سوريا كان هو الحدث المرادف في أهميته والذي شمل في آثاره وأبعاده الدوائر الثلاث العربية والإقليمية والدولية. كلا الحدثين نقلا عملية التغيير في الدول المعنية من طبيعتها المحلية إلى أبعاد تخرج عن نطاق السيطرة المحلية مما جعلها خاضعة لتأثير تيارات قد تكون متضاربة وتشمل دولاً غير عربية مثل تركيا وايران، ناهيك عن تعقيدات التدخل الدولي في وضع مثل الوضع السوري الذي ارتهن عملياً للبعد الدولي أولاً والإقليمي ثانياً مما جعل من تأثير القوى المحلية على نتائج الصراع تأثيراً هامشياً. وهكذا ابتدأت تفاعلات المشهد الإقليمي والدولي تأخذ الصدارة بشكل علني في تطور الأحداث في المنطقة العربية.
كان لتولي حركة الإخوان المسلمين الحكم في مصر ، ذات الثقل التاريخي والسياسي وهي الدولة المحورية الأهم في العالم العربي، وقع الصاعقة على مجريات الأحداث في المنطقة. وقد فتح هذا التطور الباب على مصراعيه أمام أحلام حركة الإخوان المسلمين خصوصاً والإسلاميين بشكل عام بإعادة تشكيل الدولة المصرية لتصبح جزءاً من دولة الخلافة ومرتكزاً لانطلاقة إسلامية إخوانية تشمل العالم العربي. وفي الوقت نفسه فتح هذا التطور الباب أمام الأحلام التركية بإعادة إحياء نوع ما وشكل ما من الخلافة الإسلامية العثمانية بقيادة تركيا الإسلامية. وابتدأت التفاعلات الإقليمية تفرض سيطرتها على تطور الأحداث وأصبحت اسطنبول الكعبة السياسية للعديد من القوى الإسلامية، وابتدأ إخوان مصر وإخوان الأردن وإخوان حماس وإخوان سورية وإخوان تونس بالحجيج السياسي إلى تركيا. وتمددت العضلات السياسية التركية الإقليمية لتتمكن من احتضان هذا الدور الجديد والمسؤوليات الجديدة. وتسارع الصراع بين أخونة الدولة المصرية ومدنيتها. وتجاوز الاستقطاب الناتج عن ذلك كل حدود. ووصلت الدولة المصرية إلى مفترق طرق إما انقلاب إخواني على مدنية الدولة أو انقلاب عسكري للمحافظة على مدنية الدولة. وكان ما كان وانهار العمود الرئيسي في مخطط أسلمة المنطقة بقيادة تركيا وضمن مفهوم عثماني أممي إسلامي. وجاء الرد التركي حاداً ومنسجماً مع موقف الإخوان المسلمين وهاجموا جميعاً ما جرى في مصر بأقصى ما لديهم . في حين ابتدأ العهد الجديد في مصر في محاولة إعادة تركيز دعائم الدولة المصرية المدنية مع اعتبار أن كل ما جرى كان نتيجة حتمية لغياب بديلٍ شعبي للإخوان المسلمين في مصر.

وتقديراً من العهد الجديد في مصر لخطورة وجود فراغ سياسي وتنظيمي على المستوى الشعبي ومنعاً لتكرار تجربة نجاح الإخوان المسلمين في الانتخابات ، واعترافاً بالحاجة إلى قطب جاذب للشعب تم العمل بسرعة وإن كان بشكل ساذج على محاولة إعادة خلق الخيار القومي الناصري والتركيز على أمجاده الوطنية . وبالطبع فإن هذا المسار يتضمن تكريس القيادة الخفية أو المعلنة للقوات المسلحة المصرية كضامن للدولة المدنية مع التركيز في الوقت نفسه على الطبيعة الباطنية والدموية لحركة الاخوان المسلمين وتاريخها في الاغتيال السياسي. ويتم العمل الآن على تجريدها من غطائها الديني ووصايتها المفترضة على الدين من خلال إعادة تكريس القيادة الدينية للأزهر كمرجعية وحيدة في القضايا والفتاوى الدينية .

وكان لكل ما جرى في مصر انعكاساته السلبية بل والمدمرة على الحركات الإسلامية وعلى احتمالية استلامها للسلطة أو بقائها في السلطة في دول عربية أخرى، وعلى برنامج إعادة إحياء مفهوم الأمة الإسلامية ودولة الخلافة.
وقد ساهم هذا التطور على الساحة المصرية في خلط مزيد من الاوراق وتعقيد الامور على الساحة السورية .

لقد ثار غضب الإسلاميين الذين ابتدأوا يشاهدون عِقْد الأسلمة الذي كاد أن يكتمل قد ابتدأ ينفرط بفعل ضغط ما جرى في مصر. وجرت محاولات حثيثة للتعويض عن تلك الخسارة في مصر بدفع الأمور في سورية باتجاه إسقاط الأسد لصالح قيام حكم إسلامي سني يُعوض عن الخسارة في مصر. وقد دفع هذا التطور التحالفات الإقليمية باتجاهات متناقضة إلى حد الجنون. ففي الوقت الذي تقف فيه السعودية ودول الخليج على نقيض الموقف التركي تجاه مصر، نشاهد ولأسباب مختلفة تبلور حلف تركي- سعودي – خليجي باتجاه إسقاط الأسد لصالح قوى إسلامية تم تصنيفها بالقوى السنية، مما استدعى رد فعل النظام السوري وايران بإرسال قوات حزب الله اللبناني الشيعي لإسناد النظام السوري والقتال إلى جانبه وتحول الأمر بذلك إلى استقطاب إقليمي ديني سني- شيعي. وخرجت تركيا عن اللباقة الدبلوماسية واتخذت موقفاً حاداً ومعلناً باتجاه العمل على عودة نظام حكم الإخوان في مصر وعلى إسقاط نظام الأسد في سوريا واستعداد تركيا للمساهمة في أي جهد حربي في هذا الاتجاه . وقد أدت هذه الاستقطابات الإقليمية إلى استقطاب دولي مماثل قامت أمريكا والغرب من خلاله بدعم المعسكر السني المضاد للأسد ، في حين قامت روسيا والصين بدعم المعسكر الشيعي الداعم لنظام الأسد. ولكن ترجمة كل هذه الصراعات والسياسات والتناقضات ضمن أطر دينية وتقسيم الشعب الواحد إلى أطيافه الدينية الجزئية قد وضع أرضية جديدة وخطرة لما ستؤول إليه الأمور في الحقبة المقبلة، مما قد يؤشر على بداية إعادة تقسيم دول المنطقة ونقلها من الهوية الوطنية إلى الهوية الدينية كأساس للإنتماء والدولة.

وابتدأت الأمور تسير في اتجاه خطير جداً على مستقبل المنطقة العربية ومصالحها. فتحول أسس الصراعات في المنطقة من أسس سياسية وطنية إلى أسس طائفية دينية من شأنه أن يصب في مصلحة إسرائيل مباشرة ودون أي لُبس. فالنجاح في إعادة تعريف أسس الصراع في المنطقة من سياسي إلى ديني سوف يحول صراع العرب والفسطينيين مع إسرائيل من صراع سياسي وطني إلى صراع ديني ويصبح الصراع بالتالي بين اليهود واليهودية من جهة والمسلمين والإسلام من جهة أخرى! وهذا بالضبط ما تريده إسرائيل.

مرة أخرى يطرح السؤال نفسه، هل نحن بصدد تقييم تجربة “الربيع العربي” بما لها وعليها لاستخلاص الدروس والعبر تمهيداً لربيع عربي ثانٍ، أم أن هذه هي نهاية المطاف وأن ما جرى هو طفرة لا جذور لها ولا مستقبل لها بل هي عبارة عن ترجمة بائسة لأطروحة أكثر بؤساً وهي “الفوضى الخلاقة”، أم مزيج من الإثنين؟

lkamhawi@cessco.com.jo



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد