نظرة على سيناريو ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان

نظرة على سيناريو ما بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان

02-12-2013 03:38 PM

قبل اثني عشر عاما قامت الولايات المتحدة، مدعومة بالاتحاد الأوروبي، وروسيا، وجميع دول العالم بما في ذلك إيران، بتوجيه ضربة قاصمة للقاعدة وطالبان في أفغانستان. كانت النتيجة تهشيم حكومة طالبان، وتشتيت القاعدة. لكن الضربة لم تكن قاضية، فقد بقيت القاعدة تعمل تحت الأرض، وكذلك طالبان.

في الحقيقة تحرك الولايات المتحدة بعد كارثة الحادي عشر من سبتمبر 2001 ضد أكثر الحركات الإسلامية السياسية تطرفا التي تتخذ من أفغانستان منطلقا لها، كان طوق نجاة إلى إيران، وروسيا، والصين، وجمهوريات آسيا الوسطى. لأنه، وعلى رأس الألفية الثالثة، لم يكن خافيا عزم طالبان والقاعدة التمدد شمالا، في جمهوريات أسيا الوسطى، وغربا، في العالم العربي تحديدا. كانت تلك الاستراتيجية واضحة كل الوضوح من الرسائل التي حملتها أشرطة بن لادن والظواهري، كان اللغز بالنسبة للدول العربية جميعا يكمن في التوقيت فقط، وكانت القاعدة تنتظر رياحا إقليمية ودولية ملائمة للبدئ في مشروعها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. لم تأت الرياح بما تشتهي سفن القاعدة، فجاء رد فعل الولايات المتحدة حاسماً وقاصماً وبالدرجة الأولى معطلا لفترة لم تكن واضحة بعد سبتمبر 2001.

كانت حكومة طالبان، صاحبة الكلمة العليا في أفغانستان، لا تؤوي القاعدة فقط، بل كانت ملاذا أمينا للمتطرفين من كل حدب: من القوقاز، ومن أوزبيكستان، وطاجيكستان، وويغورستان، وكشمير. ورعت في عامي 1999 و 2000 دعمت حركة طالبان متطرفين دينيين وقوميين أيضا من كرغيزستان، وكانت طاجيكستان الجبلية ظهيرا استراتيجيا لتلك المجموعات التي نشطت في جمهورية كرغيزستان، وبدى نشاطها واضحا في عام 2000 في وادي فرغانة، حيث أشعل صدامات عنيفة بين الكرغيز والأوزبك في مدينتي أوش وأوزغان اللتين يسكنهما خليطا من القوميتين.

كان ميدان نشاطات هذا التجمع الديني-العسكري (طالبان-القاعدة) واسعا جدا شمل كرغيزستان والقوقاز ومقاطعة سنكيانغ (ويغورستان) في غرب الصين، وكشمير. كانت القاعدة، بصورة خاصة في تلك المرحلة الانتظار الدقيقة التي سبقت كارثة الحادي عشر من سبتمبر، تركز جهودها على تعميق الاختراق وغرس جذورها عميقا في اليمن، والسودان، والصومال، والمغرب العربي أيضا، أي أنه لم يكن من مهام القاعدة أن يغطي نشاطها آسيا الوسطى، كما لم يكن من مهام طالبان الاهتمام بالعالم العربي والقوقاز اللذين بقيا منطقة لنشاطات القاعدة بامتياز. كان تقسيم العمل واضحا بشكل استثنائي.

وقد أثرت المجموعات التي تدعمها حركة طالبان على الحكومة الكرغيزية تأثيرا سلبيا حيث استنفذت طاقات الأمن الكرغيزي الذي لم يكن باستطاعته إغلاق الحدود مع طاجيكستان لأنها تمر عبر جبال شديدة الوعورة. ونجحت مجموعات المتطرفين تلك من إذكاء روح التناقض القومي بين الأوزبك والكرغيز في وادي فرغانة الخصيب حيث تتشابك القرى الأوزبكية مع الكرغيزية مع الطاجيكية، كما نجحت أيضا في تأزيم العلاقات الكرغيزية-الأوزبكية. كانت هذه الاستراتيجية تهدف إلى استنفاذ قوى الأنظمة الحاكمة عبر نشر الفوضى والعنف.

لم يكن للولايات المتحدة قبل عام 2001 أي وجود عسكري في آسيا الوسطى. إلا أن الأمر اختلف كلياً بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001. فبعد الكارثة في نيويورك وبنسلفانيا وواشنطن، فتحت روسيا وإيران وباكستان، كما فتحت الدول العربية، ودول أوروبا الشرقية أجوائها أمام الولايات المتحدة للوصول إلى القاعدة وطالبان في أفغانستان. كان فلاديمير بوتن، رئيس روسيا الجديد في تلك اللحظة يتلمس طريقه لقيادة روسيا عبر مسالك سياسة دولية جديدة، وكان شمال القوقاز مشتعلا. وكان بوتن قد قطع على نفسه وعدا بالقضاء على الإرهاب والحركات الانفصالية التي ضربت في عمق روسيا: في موسكو وسانت بطرسبرغ ومدن روسية أخرى. كما كان بوتن حريصا إلى الإشارة إلى أن روسيا ليست لوحدها في معركتها تلك، فالإرهاب قد ضرب عواصم عديدة في أوروبا الغربية، كما ضرب سفارات أمريكا في كينيا وتنزانيا (1998)، وضرب المدمرة كول في اليمن. ورغم ذلك، لم يكن فتح الأجواء الروسية أمام الولايات المتحدة دون تحفظات من جانب فريق كبير من القيادة السياسية-العسكرية الروسية التي لم ترغب في توفير الظروف الملائمة لإقامة وجود أمريكي وقواعد عسكرية أمريكية في آسيا الوسطى. إلا أن تلك الاعتراضات لم تؤثر على قناعات بوتن الطامح إلى تآلف دولي ضد الإرهاب. جاءت "غزوة" بن لادن في الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتدفع بالولايات المتحدة إلى إعلان حرب عالمية ضد الإرهاب. كانت تلك لحظة ثمينة استغلها بوتن ببراعة للقضاء على الانفصاليين في شمال القوقاز. ونجحت خطته وتقلص الخطر إلى الحد الأدنى، ووضعت موسكو شابا في قيادة جمهورية الشيشان المضطربة، ووفرت له كل مقومات السيطرة، وشرعت في برنامج لإعادة بناء غروزني المهشمة لتصبح نموذجا للمدن في شمال القوقاز.

هنا، لا بد من مقارنة بسيطة لاستبيان عمق الآثار السلبية "لغزوة" بن لادن، التي قُتل فيها ما يقارب الثلاثة آلاف مدني، وتأثيرها السيئ على المسلمين الأمريكان، بالإضافة إلى أنها خلقت ظروفا عسكرية مشابهة لتلك التي خلقتها غزوة اليابان حين قامت بضرب القاعدة البحرية الأمريكية في بيرل هاربر صبيحة السابع من ديسمبر/كانون الأول 1941. قتلت اليابان ما يقارب ألف بحار. ودخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء دون تردد، وكان واضحا أن مصير دول المحور قد أصبح محتوما.

احتلت الولايات المتحدة، مدعومة بتحالف دولي واسع، أفغانستان وساعدت في بناء حكومة بقيادة الرئيس حميد كرزاي ذي الأصول البشتونية. وأعطت الحكومة الأوزبكية عام 2001 لأمريكا حق استخدام قاعدة كانت سابقا قاعدة عسكرية سوفييتية بالقرب من مدينة قَرْشي، عرفت بقاعدة قَرْشي-خندباد. استخدمت الولايات المتحدة القاعدة تحت اسم "قلعة الحرية"، وأطلق عليها أيضا اسما كوديا (K2)، وتركتها بسبب تأزم العلاقات بين أوزبكستان والولايات المتحدة بسبب انتقاد الأخيرة لاستخدام الحكومة الأوزبكية القوة المفرطة ضد المتظاهرين عام 2005.

من ناحية ثانية اتفقت الولايات المتحدة مع الحكومة الكرغيزية على استئجار قاعدة ماناس، بالقرب من العاصمة بشكيك عام 2001. ستغلق قاعدة ماناس في منتصف عام 2014 بموجب قرار من البرلمان الكرغيزي بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. وقد استعاضت الولايات المتحدة عن قاعدة ماناس بقاعدة في رومانيا بالقرب من مدينة كونستانتا.

جاءت ساعة الحقيقة، وحان خروج الولايات المتحدة وحلف الناتو من أفغانستان عام 2014، بموجب قرار اتخذه الرئيس باراك أوباما عام 2010. وحيث أنه لا يفصلنا الآن عن 2014 سوى شهرا واحدا فقط، فإنه لا يمكن غض الطرف عن المخاوف التي ستتبع هذا الانسحاب. وأغرب ما في الأمر أن الصين وروسيا أكبر لمتضررين من الانسحاب الأمريكي، وأكثر الدول تقديرا للمخاطر التي ستلي هذا الانسحاب. وعلق الكسيْ أرباتوف بصراحة تامة أن تدخل الولايات المتحدة في أفغانستان قد أسعف روسيا. أما في العالم العربي فلم تُلمس أية ردة فعل حول خلخلة في ميزان القوى في أفغانستان، وعودة القاعدة وطالبان للتحرك وملؤه عما قريب.

لقد رأت روسيا في انسحاب الولايات المتحدة خطوة ستوفر لها هيمنة عسكرية كاملة على آسيا الوسطى، إلا أن استقراء الصورة القاتمة المتمثلة في عودة القاعدة وطالبان للحركة بحرية تامة في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي قد أفسد على روسيا نشوة الإحساس بالتفرد بالتأثير والقيادة، وبأنها القوة الوحيدة التي تحتفظ بقواعد ووجود عسكري في آسيا الوسطى. وقد علق دميتري ترينين، أحد أبرز الخبراء الروس بشؤون آسيا الوسطى قائلا "إن الولايات المتحدة تخلق مشاكل عند دخولها إقليم معين، وكذلك الأمر حين خروجها منه". ولا يخفى على الاستراتيجيين العسكريين حجم المخاطر المتوقعة على روسيا والصين والهند وباكستان بعد خروج الولايات المتحدة والناتو من أفغانستان، وتولي حكومة كرزاي مهمة فرض الأمن في البلاد. التوقعات أن التطرف وتجارة المخدرات وتهريب السلاح ستجتاح البلاد من جديد، وستتجه طالبان إلى آسيا الوسطى في هذه الجولة، وربما بلغت أطراف روسيا الجنوبية أيضا. ليس متوقعا أن السلام أفغانستان، كما مصير حكومة كرزاي لن يختلف عن مصير حكومة نجيب الله التي نصبتها القوات السوفييتية قبل انسحابها من أفغانستان عام 1989. إن الفوضى التي ستلي الانسحاب الأمريكي لن تقتصر على أفغانستان، بل سيصل شررها إلى جيرانها وأبعد من ذلك.

ستتضرر باكستان والهند بشكل مباشر بسبب تنافسهما على النفوذ في كابل. أما روسيا عند تفحص متطلبات أمن حدودها الجنوبية، فإنها قد بدأت تبحث عن وسائل وقنوات للتفاهم مع البوشتون، العرق الأقوى سياسيا وعسكريا في أفغانستان. كما وجدت روسيا نفسها مضطرة أيضا للتفاهم مع جيران أفغانستان، وأن عليها أن تبتعد عن الدخول في تنافس حول النفوذ مع باكستان والهند في أفغانستان. وترى روسيا والصين أن علاقاتهما مع أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي سيقتصر على النشاط الاقتصادي، ولن يكن هناك أي نية للتدخل العسكري. وتتخوف روسيا بشكل رئيسي من عودة تجارة المخدرات، لذلك فإنها تضع الخطط لمواجهة الخطر في آسيا الوسطى قبل أن يصل إلى حدودها الجنوبية. وحيث أن روسيا والصين وكرغيزستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وكازاخستان أعضاء مؤسسين في منظمة شنغهاي للتعاون، فإن الجهود الروسية ستكون مقبولة ومرحبا بها في الإقليم. لكن الأمر مختلف جدا بالنسبة لأفغانستان التي تتمتع بمكانة "عضو مراقب" في منظمة شنغهاي للتعاون.

أما مسار تطور حكومات آسيا الوسطى، ورغبتها في التحديث والانفتاح على الغرب فسيتعرض لهزة عنيفة في مرحلة تاريخية تحاول فيها تطوير بنيتها الاقتصادية والسياسية سلميا.

لكن...

يبقى السؤال الكبير: ما الذي أعده الجانب اللين، العالم العربي، المستهدف أصلا من القاعدة وطالبان. لا يعني شيئا غياب أسامة بن لادن أبدا؛ فالموللا محمد عُمر الذي رفض تسليم بن لادن إلى الولايات المتحدة مقابل عدم ضرب أفغانستان ما زال حيا، والعقل المخطط للقاعدة في عهد أسامة بن لادن، أيمن الظواهري، أصبح الآن الرجل الأول فيها، فهل لدى الدول العربية استراتيجية لمواجهة التسونامي القادم من أفغانستان؟ وهل ستجدي الخطط العسكرية والأمنية القمعية الجاهزة؟ أم أن لديها استراتيجية مشتركة، أو استراتيجيات أكثر نجاعة لكسر التهديد الذي تشكله القاعدة؟ أم أن الدول العربية ستلجأ إلى استراتيجية "لكل حادث حديث"!!!

Gali.Tealakh@gmail.com



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد