هدية المشرقي الجذامي لأخيه المغربي
أخٌ من المغرب مُحِبٌّ للعربية ، يعشقُها ، فهي دثارُه ، وشِعارُه ، يتغنَّى بها بين من رَطَنَ رطانةَ الأعاجم ، ورفع رأسَه بها في زمنٍ نكَّسَ البعضُ رؤوسَهم منها خجلا وحياءً أن يَنْتَسُبوا اليها !
هو الأخ المفضالُ ( أبو حاتم سفيان ) المغربي ، ردَّدَ بيتين للأكمهِ ( بشار بن برد ) معجباً بهما ، مفتوناً بملاحتهما ، وحُقَّ له ذلك ؛ فهي لغةٌ بهرتْ الدُّنيا ، وغنَّى بها الأعاجمُ يوما في ديار أسبانيا لما كانَ أهلُها هم الناسُ .
وقد أَحْسَنَ الأخُ المغربي الظنَّ بأخيه المشرقي ( الترباني ) ؛ فطلب منه شرحاً لهذين البيتين ، وإظهارَ رَقْرَاقِ حسنِهما ، فلبَّى المشرقيُّ الطَّلبَ ، لأنَّ أمشاجَ العلم ؛ كأمشاجِ الرَّحمِ ، فمِنَ اللهِ العونُ ، وعليه قصدُ السبيل .
قال الأَكْمَهُ بشَّارُ بن برد العُقيلي - ولاءً لا صُراحاً - :
وَحوراءُ المَدَامِعِ مِنْ مَعَدٍّ
..... كَأَنَّ حديثَها قِطَعُ الجُمَانِ
إذا قامَتْ لِسُبْحَتِها تَثَنَّتْ
..... كَأَنَّ عِظَامَها مِنِ خَيْزَرَانِ .
بشارُ بن برد رجلٌ وِلَدَ أعمى وهذا ما يُسَمّى بالأكْمَهِ ، وجُلُّ اعتماده على حاسَّةِ السَّمْعِ ، وهو صاحبُ البيت الشرود :
يا قوم أُذُني لبعضِ الحيِّ عاشِقَةٌ
..... والأُذُنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانا .
وقول بشار : ( وحوراءُ المدامع ... ) له قِصَّةٌ يَحْسُنُ ذكرُها هنا :
جاء في ( الغيثُ المسجم ... ) ( 1 / 418 ) :
( حُكِيَ أنَّ بشاراً لما سمع قولَ ( كُثَيِّرعزَّة ) :
ألا إنَّما ليلى عصا خَيْزُرانَةٍ
..... إذا غَمَزوها بالأَكُفِّ تلينُ !
قال ( بشار ) : قاتل اللهُ أبا صخرٍ يزعمُ أنَّها عصا ، ويعتذر بأنَّها خيزرانة ، والله لو قال : عصا مُخٍّ أو عصا زُبْدٍ لكان قد هَجَّنَهُ ، ذِكْرُ العصا ، هَلَّا قال كما قلتُ : ... ) ، وذكر البيتين .
فكما ترى سببَ قولِ هذين البيتين هو الردُّ على هُجْنَةِ بيتِ ( كُثَيِّرعزَّة ) في ذكر لفظة ( العصا ) .
فبشار بن برد بدأ بذكر العين الحوراء من هذه الفتاة المَعَدِّيَّة – نسبة الى معَدٍّ – وهو ابن عدنان جَدُّ العرب العدنانيين ، والحَوَرُ من أجمل صفات العين ؛ وهو شدَّةُ بياض العين مع شِدَّةِ سوادها ، وهذا هو غالبُ عيون نساء العرب ، فلذلك جعل الله – عزَّ وجلَّ – صفات نساء الجنة على هذه الشِّيَةِ ( الحَوَرُ ) ، قال تعالى :
(حور مقصورات في الخيام ، فبأي آلاء ربكما تكذبان لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) .
فغايةُ الجمال هو ما أعَدَّهُ اللهُ – عزَّ وجلَّ – لعباده المؤمنين في جنة الخلد ، ومن هذا الجمال ( الحَوَرُ ) في العين ، لا الزُّرْقةِ ، ولا الخُضْرَةِ .
ومن بديع لفظ بشار بن برد ذِكْرُهُ ( المدامع ) بصيغة الجمع ، وذِكْرُ مواطن الدمع من العين ، وهي أطراف العين التي تسيلُ منها الدموع ، الموق ما وَلِيَ الأنفَ ، واللحاظ ما وَلِيَ الصُّدْغَ ، فلذلك نسمع كثيرا من العوام يقولون : ( جاء فلان ودموعُهُ أربعُ ) أي أن الدموع تسيل من الموق واللحاظ ، ولكل عين موق ولحاظ ، فيكون أربعة مواطن لسَيلان الدمع !
فهو يضعُكَ أمام صورة غاية ٌ في الحسن والبهاء والجمال ، صورةُ امرأة واسعة العينين ، كَحَلاءُ ، فاترةُ الطَّرْف ، تسكبُ دموعا من مَآقيها وألحاظها !!
وفيه أن عينيها يسيطرُ عليها الكَحَلُ حتى في المواطنِ التي قد يُتَوَهَّمُ فيها قِلَّةُ ظهور هذه الصفة ، لأن مواطن الدمع في العادة تتغيَّرُ الى الحمرة بسبب الدمع وحُرْقَتِه ، فهذا هو وصفُ الأكمهِ بشار الذي ما أبصر شيئا في حياته !
وقد غلب بيتُ جرير - في وصف العين العربية - كُلَّ بيت :
إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ
..... قَتَلْنَنَا ، ثُمَّ لمْ يُحْيِيْنَ قَتْلانا
يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حراكَ به
..... وَهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أركانا .
وهذا الصحابي كعبُ بن زهير يقولُ رائِعتَهُ :
وما سُعادُ غداةَ البينِ إذ رَحَلوا
..... إلَّا أَغَنُّ غَضِيْضُ الطَّرْفِ مكحولُ
فقد جمع كعبُ بن زهير جمال الصوت ( أَغَنُّ ) من الغُنَّة وهو مدحُ في صوت المرأة ، وجمالَ العين ( مكحولُ ) ، وقد شابَهَهُ بشارٌ في ذلك .
قال السيوطي في أمر الصوت عندما وصل إلى بيت كعب بن زهير في كتابه ( كُنْهُ المُراد في بيان بانت سعاد ) ( 143 ) :
( أنَّ ابا تمام سمع جاريةً تُغَنِّي بالفارسية ؛ فشجاه صوتُها ، ولم يفهمْ كلامَها ؛ فأنشدَ ، وهو يقول :
فَلَمْ أفْهَمْ مَعَانيها ، ولكنْ
..... شَجَتْ قلبي ، فَلَمْ أَحْمِلْ شَجَاها
فَكُنْتُ كَأَنَّني أَعْمى فَغَنَّى
...... بِحُبِّ الغانياتِ ، ولم أَرَاها .
قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل : وأَمْرُ الصوتِ عَجَبٌ ؛ منه ما يقتلُ كصوت الصاعقةِ ، ومنه ما يَسُرُّ ويُبْهِجُ حتَّى يُرْقِصَ و يُقْلِقُ ، ومنه ما يُبْكي ، ومنه ما يُزِيْلُ العقلَ ويورثُ الغَشَا ، وبه يُنَوِّمون الصبيانَ ، وبه تُسْتَخْرَجُ الحيَّةُ من جُحْرِها ، وأهلُ الصناعات إذا خافوا المَلالَ تَرَنَّموا ، وتُسْقَى الدَّوابُ بالصفير ، وتصغي بآذانها إذا غَنَّى لها المكاري ، وتزيدُ الابلُ في مشيها إذا حدا بها الحادي ... ) .
وهذا هو فعلُ الصوتِ ، فإنْ كان صوتُ حسناء ، بها غُنَّةٌ وشيءٌ من اللحنِ فهو خمرُ الأصوات الذي يُذْهِبُ الألبابَ ، وصدق جريرٌ عندما قال في حَقِّ أمِّ عمروٍ :
يا أُمَّ عمروٍ جزاكِ اللهُ مَغْفِرَةً
..... رُدِّيْ عليَّ فؤادي كالذي كانا
أَلَسْتِ أَمْلَحَ من يَمْشي على قَدَمٍ
..... يا أَمْلَحَ النَّاسِ ، كُلِّ الناسِ إنسانا .
وقد شبَّه بشارٌ صوت الفتاة المعَدِّيَّة العربية بِقِطَعِ ( الجُمان ) ، والجمان مفرده جمانة وهي هَنَواتٌ تُصاغُ من الفضة تتزين بها المرأةُ ، وبعضهم قال : هي اللؤلؤة !
وكما اعترضَ بشار بن برد على بيت كُثيِّرعزِّة في ذكْر العصا ، حان اعتراضُ الترباني الجذامي على وصف بشار لكلام الفتاة بقطع ( الجمان ) ، فهذا تشبيهٌ باردٌ لا حرارةَ فيه ، فأيُّ جمال في وصف حديثِ الفتاة بالجمان ؟! إنما الجمالُ في قول ذي الرُّمَّة :
ولمَّا تلاقينا جَرَتْ من عيونِنَا
..... دموعٌ كَفَفْنا ماءَها بالأَصابعِ
وَنِلْنا سِقَاطَاً من حديثٍ كَأَنَّهُ
..... جَنَى النَّحْلِ ممزوجاً بماءِ الوَقَائِعِ .
فهذا هو الوصف الذي يليق ، ويَطْرَبُ له الفؤادُ ، وقد قال جِرَانُ العَوْدِ :
حَدِيْثٌ لو أنَّ اللحمَ يَصْلى بِحَرِّهِ
..... غريضاً ؛ أَتى أَصْحابَهُ وهو مُنْضَجُ !
ومنهم من وصف حديثَها بصوت الغيث يسمعه رجلٌ ممْحِلٌ :
وَحَديثُها كالغيثِ يسمَعُهُ
..... راعي سنينَ تتابعتْ جدبا
فأَصَاخَ مُسْتَمِعاً لِدِرَّتِهِ
..... ويقولُ – من فَرَحٍ – هيَا رَبَّا !
وقال جرير :
إذا هُنَّ ساقَطْنَ الحديثَ كَأَنَّهُ
..... جَنَى النَّحْلِ أو أبكارُ كَرْمٍ يُقَطَّفُ .
ويكثرُ لفظُ ( سِقاط و مُسَاقطة ) عند وصف حديث المحبوبة ، وهو أن يكون الكلامُ نُوَبَاً يتكلم العاشقُ ثم يسكتُ ثم تتكلمُ المحبوبةُ وهكذا ، كُلٌّ له نصيبُه في الحديث ، هذا معنا ( ساقطْنَ ) الوارد في بيت جرير وغيره .
إلا أنني وجدتُ من شاركَ بشاراً هذه البرودةَ وهو الأخطلُ النصراني :
وقد تكونُ بها سلمى تُحَدِّثُني
..... تساقُطَ الحَلْي حاجاتي وأسراري .
شبَّه كلامَها بعقدٍ انقطعَ فتساقط لؤلؤه ، وإنْ كان بيت الأخطل فيه إحداثُ صوت ؛ لتساقط حبات العقد فيصدرُ صوتٌ جَرَّاءَ ذلك ، أما بيت بشار فقد خلا من الصوت واعتمد فقط على البريق واللمعان .
ثم ينتقل بشار إلى وصف جسم المحبوبة العربية ، فقد بدأ بالعظام وجعلها كَأَنَّها الخيزران ليناً وتثنِّياً ، فنقول : إنْ كان عظامُها بهذه الليونة والطَّراوة ، فكيف بلحمها وشحمها فهو الزبْدُ والمُخُّ إذن .
والتَّثَنِّيْ في المرأة من صفات جمالها ، ومن أروع ما سمعتُ في ذلكَ قولَ تميم بن أبيِّ بن مقبل :
يَمْشِيْنَ هيلَ النَّقا مالتْ جوانبُهُ
..... يَنْهالُ حيناً ، ويَنْهاه الثَّرى حينا
يَهْزُزْنَ للمشي أوصالاً مُنَعَّمَةً
..... هَزَّ الجنوبِ ضُحىً عِيْدانَ يَبْرينا
أو كَاهْتِزازِ رُدَيْنِيٍّ تَداوَلَهُ
..... أيْدي التِّجَارِ ؛ فزادوا مَتْنَهُ لِيْنا !
فيا سحرَ العربِ ما أروعَك ، وأصفاك !
وقال مسلم بن الوليد في ذلك وإن كان دون قول تميم :
مريضاتُ أَوْباتِ التَّهادي كَأَنَّما
..... تَخافُ على أَحْشائها أنْ تَقَطَّعا .
وقال الآخرُ في تَهاديها في مشيتها :
تهادى في الثياب كما تهادى
..... حَبَابُ الماءِ يَتَّبِعُ الحَبَابا !
قال العلامة محمود شاكر – رحمه الله – معلِّقا على هذا البيت :
( وتهادتْ المرأةُ في مشيتها : تمايلتْ قليلاً في سكون وخيلاء ، والتَّهادي أحلى مشيِهِنَّ ، ولكن نساء زماننا يردْنَ أنْ يمشين مشياً مذكرا ... ) .
وكلمة ( سُبْحة ) في بيت بشار يُراد منها ( صلاة النافلة ) وهذا مما يَدُلُّ على بُطلان هذه الخرزات الطارئة على هذه الأمة في القرن الرابع الهجري ، ولي مقالة منشورة في ابطال الخرزات لغة وشرعا معنونة ( بطلان السبحة لغة وشرعا ) .
باريس سان جيرمان يسحق ليفركوزن بسباعية تاريخية
ترامب: لا أريد اجتماعا بلا نتائج مع بوتين
7 أضرار صحية خفية للإفراط في تناول اللوز
المهـور تتقلـص: من 110 إلى 50 جراماً مقابل 5 آلاف دينار
الأمم المتحدة تطالب بتعزيز مساعدات الإيواء لغزة قبل الشتاء
لرحلة مثالية: دليل ذهبي قبل السفر وأثناءه وبعده
العدوان يلتقي الفائزين بجائزة الحسين للتطوع
انقلاب باص على عمارة بالبنيات دون إصابات .. صور
بعد 921 يومًا من التوقف .. مطار الخرطوم يعود للحياة
ماسك يهاجم مدير ناسا بسبب مهمة القمر
ترامب: السلام قائم وحماس مهددة إن خالفت الاتفاق
أربعون سيناتورًا يطالبون ترامب برفض ضم الضفة
تفسير حلم الامتحان للعزباء في المنام
دلالة رؤية ورق العنب للعزباء في المنام
وظائف ومدعوون للتعيين .. التفاصيل
الأردنية: فصل نهائي بانتظار طلبة شاركوا في المشاجرة الجامعية
إغلاق طريق كتم وتحويل السير إلى الطريق الرئيسي (إربد – عمّان)
إحالة موظف في أمانة عمان للمدعي العام .. تفاصيل
إطلاق حزب مبادرة رسميًا لتعزيز العمل الحزبي وتمكين الشباب
أسعار الذهب محليا تسجل قفزة جديدة
الشارع المغاربي بين العود الأبدي والهدوء المريب