محطات وذكريات على طريق الهجرة

mainThumb

25-10-2014 09:56 AM

إنّ التأمل العميق لأحداث الهجرة الشريفة؛ مقدّماتها ووقائعها ونتائجها يضع أيدينا على كنـز من العبر والعظات والمدلولات على نحو يؤهلنا لتجاوز كلّ ما يحيط بنا من معوّقات ومشكلات، ويعيننا على الانطلاق نحو مستقبل واعد نحقّق من خلاله المنزِلة التي اختصّنا الله تعالى بها إذ جعلنا خير أمة أخرجت للناس.


وعند ساعة الولادة ورؤية المولود تنسى الأم كلّ ساعات الألم وشدّة المخاض، وهكذا تحمّل نبينا   - عليه الصلاة والسلام -  كلّ أنواع الأذى والاضطهاد، والتآمر والاتهام وهو يتطلّع إلى يوم الهجرة الشريفة، التي كانت إيذاناً بتحرير الإنسان من كلّ عبودية لغير الله تعالى؛ فقد كان الاسلام في مكة ديناً بلا دولة وحقّاً بلا قوة، وكان المسلمون ما بين مُعذّب أو مضطهدٍ أو مستضعف؛ فكانت الهجرة إيذاناً للحقّ أنْ يعلو ويظهر وللباطل أنْ يندحر ويُقْهَر، ولله تعالى الحمد والمنّة.


والمؤامرة التي نُسِجَت خيوطها في دار النّدوة لمحاصرة النبي – عليه الصلاة والسلام – في سجن مُظلم، أو قتله، أو إخراجه من جزيرة العرب هي نفسها المؤامرة ال

تي تُحاكُ ضدّ أمتنا لوضعها في شرنقة الخلافات ومحاصرتها بجدران اليأس والإحباط وإخراجها من دائرة التأثير والفاعلية في حركة الحياة؛ لتظلّ في دائرة الانفعال وردود الأفعال، لا تصفو لها لحظة للمراجعة والاستبصار.


ومِن تَتَبُّعِ السيرة المطهرة نجد أنّه – عليه الصلاة والسلام – كان يخرج دائماً من دائرة اليأس والإحباط، ويفتح أبواب النجاة ونوافذ الأمل؛ فكان يُصبِّر أتباعه ويَعدهم بإحدى الحسنيين؛ إما سعادة الدنيا وإما عزّ الآخرة.


وليس من نافلة القول التأكيد على أنّ طول الطريق ليس مبـرراً للتراجع والنكوص، فمن سار على الدّرب وصل بمشيئة الله تعالى، والمُشكلة دائماً مع الراكد العاجز الكسول، الذي لا يُفكّر إلا في اللحظة الحاضرة.


ونلحظ في دراسة أحداث الهجرة ووقائعها دقّة التخطيط والأخذ بالأسباب وتوظيف الإمكانات والخبرات، والاستفادة من جميع الطاقات وتوظيف فنون الخداع والتضليل للعدو المتربص.


وفي المُقابل نُدْرك على الجانب الآخر ما يبذله الأعداء من أموال وخبـرات وطاقات وحشود لمُصادرة الحركة الدّعوية وتشويه صورة أصـحابها وإرسال العيون لتَعَقّبهم ورصد حركتهم وإغراء زبانيّتهم بالأُعْطِيات، فقد وعَد المشركون كلّ مَنْ يأتي بالنبي – عليه الصلاة والسلام – أو صاحبه بمئة ناقة، ومع الأسف فالمسلمون اليوم تهبّ عليهم الرّياح من كلّ جانب تعصِفُ بأوطانهم وأموالهم وأعراضهم، ويُقْتَلون بأسلحتهم وتُهدمُ بيوتهم بأموالهم وثرواتهم وهم في حالة من الذهول وفقدان الاتجاه.


وقد آن لنا أنْ نُدرك أهمية المسجد ونحن نقرأ في أحداث السيرة المُطهرة أنّ أول أعمال نبيّنا محمد   – عليه الصلاة والسلام -  بعد الهجرة الشريفة بناء المسجد؛ ففيه تؤدى الصلوات ويُعلّم القرآن، ويتشاور المسلمون فيما يُصلِح شأن دنياهم وآخرتهم، ويتمّ فيه إنهاء الخصومات والخلافات، وتوجيه الصدقات والمساعدات، واستقبال الوفود والزوّار، وفي المساجد يتعلّم الناس أحكام دينهم وشريعة ربهم وسنّة نبيهم؛ فجدير بأهل الرأي والمشورة أنْ يولوا المساجد اهتمامهم تفعيلاً لدورها، وإعلاءً لشأنها، واهتماماً بالعاملين فيها، ومساعدة في تشيدها وإعمارها، وتشجيعاً على ارتيادها والاستفادة من فعالياتها وأنشطتها.


هذا وقد حرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على إنعاش اقتصاد المجتمع الإسلامي بعد الهجرة إذ أنشأ سوقاً إسلامياً خاصاً ينافس الأسواق التي كانت قائمة على الربا والغش والاحتكار، فانتعش اقتصاد المهاجرين والأنصار، ومُنِع الربا والتناجش والتدليس وبيع العينة، وصارت عيوب المَبيع تَبينُ للمُشتري، وكان الصدق والتناصح ديدنُ المتبايعين مثلما يبدو ذلك في حركة المجتمع الإسلامي كلّه.


ومن أبرز سمات المجتمع الإسلامي الجديد ما فعله النبي – صلى الله عليه وسلم – من مؤاخاة بين المهاجرين والأنصار لبيان أهمية العقيدة وأنّ نسب الدّين والإيمان أوثق من نسب اللحم والدم، وقد ترجم المسلمون هذه المؤاخاة عملياً عندما أظهروا كلّ محبة وإيثار بعضهم لبعض، فصار الحبشي والفارسي والرومي والقرشي إخوة في الله تصديقاً لقوله تعالى:  وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ () وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ  (الأنفال 62 -63).


ومن أهم سمات المجتمع الإسلامي الجديد الوثيقة التي كتبها النبي – صلى الله عليه وسلّم – لتنظيم العلاقة بين المسلمين واليهود، وعلاقة المسلمين أنفسهم بعضهم ببعض. في إعلان واضح وصريح أنّ الدين الجديد يتّسع صدره للآخرين ويقبل بالتعدّدية، ولا يُكْرِه على الإسلام أحداً، وأنّه يحتـرم خصوصية أتباع الديانات الأخرى.


وختاماً فإنّ هذه شذرات كتبتها على عجالة في رحاب الذكرى العطرة ليستفد منها من جدّ في الطلب.


والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد