إختزال لنصف قرن من الزمان

mainThumb

05-04-2015 09:49 AM

 بيت قروي ,أو قل دار متواضعة , لا نختلف عما حولها من الدور, غرفة أو اثنتان ومكان للطبخ  والإستحمام- , يحيط بالدار سور من الحجارة ,وأمامها ما يعرف بالحوش,وهي مساحة محدودة تتبع الدار  وفيها الحمام , والطابون وهو ما يعرف اليوم بالفرن, تشكل في العادة مسرحا للدجاج ومكانا لمبيت الأغنام ,وخلفها حاكورة , أشجارها في مقتبل العمر .

        طفل صغير , في العقد الأول من العمر, لم يكن قد اشتد ساعده بعد,وكما هم الأطفال, بضع ساعات في المدرسة, وبقية النهار ما بين الحقل أو الزرع أوالحصاد أو الدراس ,والدراس هواستخراج حبات القمح من السنابل عن طريق ما  يعرف باللوح الذي كان يجره الحصان أو الحمار, ويبقى يدور به حتى تستخلص حبات القمح من بين أعواد القمح وسنابلهأو حراثة الأرض عن طريق عود الحرث المرتبط أيضا بالحصان أو بالحمار. ووقت قصير للهو مع الأقران ,صرة صغيرة محشوة بالقماش تتراكلها الأقدام , لتدخلها ما بين حجرين كانا بمثابة المرمى ,لتسجل الهدف ,أو هياكل سيارات وجرارات ودراجات مصنوعة من الأسلاك تتجول بين صفوف من الحجارة كانت تمثل الشوارع . وكانت الفرحة تعمر القلب حين يتلقف الطفل بيديه التعريفة  نصف قرش كانت هي المصروف اليومي, وقد كانت تجلب خمس حبات من الملبس.

       لم يكن الله ليكتب للطفولة أن تكتمل ,فقطعتها أصوات المدافع وهدير الطائرات ولم تكن تلك الأصوات مألوفة , فما كان مألوفا هديل الحمام , وصياح الديك وصهيل الحصان ونهيق الحمار, و نباح الكلب,  وضغيب الأرنب, وصياح الديك, ونقنقة الدجاج ,ومأمأة الخروف, وثغاء الماعز ورفرفة العصافير.

           لم تكن الطفولة لتكتمل, ولم يكن حتى الخامس من حزيران لذلك العام أن يكتمل كبقية الأيام ,فقد ورد الخبرعن طريق المذياع وهو صندوق خشبي كبير, يمكن إختصار مساحته اليوم بمساحة أقل من مساحة كف اليد .

      هلع وخوف وفوضى , وسباق مع الزمن , للبقاء على قيد الحياة,و رحيل من الدار وبداية لرحلة التشرد والمعاناة .أشجار حرجية وزيتون روماني قديم كانت هي المأوى,إشاعات عن القتل والذبح والإغتصاب

كما كان في سالف الحروب, وإبطال للقدرة على التفكير, فالعرض كما الأرض يستحق التضحية .

      وكان الشرق هو الإتجاه , وأصبح النهر خلف الهاربين ,وأصبح التنفس من الصعوبة بمكان ,فقد تعطلت رئة من اثنتين , وأصبحت الدار هناك, خلف النهر, تعيش العتمة ولا تعرف ضوء النهار ,أفترش الطفل كما بقية الأقران وكما الصغار والكبار ,أفترشوا الأرض وتلحفوا بأكياس الطحين, التي نصبت على شكل الخيام ,لكن الأنصار نجحوا في الإمتحان  فأبوا  إلا أن يضربوا مثلا بالضيافة, فقدموا ما استطاعوا إليه سبيلا, حتى بدأت الرايات الزرقاء ترفرف على الشاحنات.

       يركض الطفل... , يلهث خلف هذه الشاحنة تارة , وتارة خلف تلك  ليتلقف علبة سردين وأرغفة من الخبز تبقيه وذويه على قيد الحياة , وليجد بعد وقت وجيز, أن الخيمة هي المأوى, وهي المطبخ وهي الحوش وأن الخيمة هي غرفة الصف ,وأن الخيمة هي المستوصف وهي الملعب وهي  ...وهي ... وهي فصل من فصول المأساة.
 
      لكن قساوة الظروف مصانع للرجال ...وأحيانا  في قساوة الظروف مهالك للرجال ,فوقف الطفل الذي اشتد ساعده ليجد نفسه في حلبة المصارعة على مسرح الأيام , والخصوم كثر قهر وظلم وحرمان وكد وتعب, كلها تآمرت لتشكل المصاعب , فكان لا بد من التسلح  بالإرادة ,والتمترس في خندق الوطن , والإستعانة بالعزيمة والتصميم, والقبض على الجمر .

       نتيجة الصراع لم تظهر بعد , لكن الطفل حقق نقاطا قهرت الظروف أحيانا وقهرتها الظروف أحيانا, ولم يستسلم رغم أن العقد الخامس داهمة منذ حين ,وما زالت أطلال الدار تنتظر ولسان حالها يقول تعال ,أنا في الإنتظار .  



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد