قال أبو تَمَّام : ( إنَّ الأُسُوْدَ ؛ أُسُوْدَ الغِيْلِ هِمَّتُها .. )

mainThumb

08-05-2015 03:08 PM

إنَّ الأُسُودَ أسودَ الغيلِ همَّتُها
...... يوم الكريهةٍ في المسلوبِ لا السَّلبِ !

فأبو تمام في هذا البيت يُبَيِّنُ أنَّ جنود الخليفة المعتصم في معركتهم ضِدَّ الروم ، لا تكون هِمَّتُهُمْ في أسلاب الأعداء ومتاعهم بل جُلُّ هِمَّتِهم في جنود الروم والارتواء من دمائهم في ساحات الوغى ، فَشَبَّههم بالأسودِ التي تسكنُ الغيلَ ؛ وهو الشجر المُلْتَفِّ ، وهي الأَجَمَةُ ، وفيها يَتَّخِذُ الأسدُ بيتَه ومسكنَه ، ومن عادة الأسد أنَّه لا يَلْتَفِتُ إلى متاع من يفترسُهم بل كلُّ طِلْبَتِهِ في المُفْتَرَسِ ( الصريع ) ، وهذا ليس فيه كَبِيْرُ مَدْحٍ ؛ فهي صورةٌ لائقةٌ بالأسود التي ليستْ من بني البشر ، وإنْ ذكرها لِمَدْحِ بني البشر من جند المعتصم .

فإنَّ حَقَّ الصورةِ إذا بَيَّنَ النوازِعَ البَشَرِيَّةِ ، وبَيَّن التَّرَفُّعَ عنها احتقارا لها ، وتمَسُّكا بالصِّفات النَّبيلة التي تسبحُ فوقَ الغمام نقاءً وسُمُوَّا ورفعةً عن المَطالبِ الدنيوية ...

ومن أعظم الصُّوَرِ التي وجدتُها تفي بما قُلْنا أبياتا للصحابي الجليل علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – في قتلِهِ لِعَدُوِّ الله عمرو بن عبد وَدٍّ ، وذلك في غزوة الخندق :

فَصَدَرْتُ حينَ تَرَكْتُهُ مُتَجَدِّلاً
..... كالجِذْعِ بينَ دَكادِكَ وروابي

وَعَفَفْتُ عن أثوابِهِ ، ولو أنَّني
.....  كنتُ المُقَطَّرَ يَزنْ أثوابي
 
عَبَدَ الحِجارَةَ من سفاهَةِ عَقْلِهِ
..... وعبدْتُ رَبَّ محمَّدٍ بِصَوابِ .

فعلي – رضي الله عنه – صَدَرَ عن قتيلِه عمرو بن عبد وَدٍّ المعروف بالشجاعة عند العرب ، ولم يَمَسَّ شيئاً من السَّلبِ ، وعبَّر عن ذلك بقوله : ( عَفَفْتُ عن أثوابِهِ ) ، فلفظةُ العِفَّة جاءت لِتُبَيِّنَ مدى رُقِيِّ ، وَسُمُوِّ نفسِ هذا الصحابي الجليل علي – رضي الله عنه – فالعِفَّةُ هي صفتُهُ وَحُلْيَتُه .

ونحن نعلم أن حُكْمَ السَّلبِ للقاتل ، فهو حلالٌ لِعَلِيٍّ من جِهَة الشَّرع ، كما جاء في قصة أبي قتادة – رضي الله عنه – في غزوة حنين ، إلا أنه عَفَّ عن أثوابِه ومتاعه ، وهذا موجودٌ في صفوف الصحابة الكرام ، أخرج النسائي وغيرُه ، وصححه الألباني ، عن شداد بن الهاد:

(  أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه، ثم قال: أُهَاجِرُ معك. فأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أصحابه، فلمَّا كانت غزوةٌ غَنِمَ النبي صلى الله عليه وسلم سَبْيًا فَقَسَمَ، وقَسَمَ له، فأعطى أصحابه ما قَسَمَ له، وكان يرعى ظهرهم، فلمَّا جاء دفعوه إليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: قَسَمٌ قسمه لك النبي صلى الله عليه وسلم. فأخذه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: قَسَمْتُهُ لَكَ. قال: ما على هذا اتَّبَعْتُك، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى ها هنا - وأشار إلى حلقه بسهم - فأموت فأدخل الجنة. فقال: إِنْ تَصْدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ. فلبثوا قليلاً ثم نهضوا في قتال العدو، فأُتِيَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْمَلُ قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أَهُوَ هُوَ. قالوا: نعم. قال: صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ. ثم كفَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في جُبَّة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدَّمه فصلَّى عليه، فكان فيما ظهر من صلاته: اللَّهُمَّ هَذَا عَبْدُكَ خَرَجَ مُهَاجِرًا فِي سَبِيلِكَ فَقُتِلَ شَهِيدًا أَنَا شَهِيدٌ عَلَى ذَلِكَ  ) .

هذه هي الصور  التي نقفُ إتجاهَها ، ونتأسَّى بها ، ونُعَلِّمُها الأبناءَ في العفَّة والصدق ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد