في الدفاع عن الموظف الحكومي

mainThumb

16-08-2008 12:00 AM

يرعب أن يقال "أصبحنا مثل سورية ومصر .." في إشارة إلى فساد الموظف الحكومي. ومن المصلحة في ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة التي ضربت الطبقة الوسطى وعمادها أن تطلق صيحات التحذير ولو بنبرة مبالغة ؛ صونا للموظف وحماية له قبل استفحال داء الفساد بشكل يحوله إلى معضلة غير قابلة للحل.
تخفف العبارة "سنصبح مثل سورية ومصر .. ما لم نقم بالآتي". وحربا على اليأس يمكن الاعتماد على التقارير الدولية المحايدة، ومنها تقارير منظمة الشفافية الدولية، وتقرير التنمية الإنسانية، واستطلاعات مركز الدراسات الاستراتيجية وغيرها التي تضعك في منزلة بين منزلتي التفاؤل والتشاؤم. فنحن لسنا مثل سورية ومصر، كما أننا لسنا مثل النرويج والدنمارك. والتحدي الكبير كيف نتقدم باتجاه أرقى مما نحن عليه ولا ننحدر دون المستوى الذي كنا فيه أو نحن في الآن.
وإمعانا في التفاؤل يستعان بتقرير البنك الدولي الأخير عن العقود الأربعة الخالية، والذي جعلنا نتربع بحق على عرش الدول النامية في التنمية الإنسانية تعليما وصحة ورعاية اجتماعية. وكنا أفضل من إيران ( ما قبل الثورة وما بعدها ) والعراق ( ما قبل الحصار والسقوط وما بعده ) والسعودية والخليج عموما ( ما قبل الطفرة النفطية الأخيرة التي لم يقس أثرها حتى الآن).
حقق الأردن مرتبته في سباق الأربعة عقود الخالية اعتمادا على الموظف الحكومي بالدرجة الأولى. سواء كان في وزارة التربية أم في وزارة الدفاع أم الداخلية أم أي دائرة حكومية. وكان دور القطاع الخاص مكملا ورافدا فرعيا. ما كان المعلم أو الطبيب أن يقدم رعاية للناس لولا الأمن والاستقرار الذي حققه الجيش والأمن، ولم تكن العلاقة بين عناصر البيروقراطية الحكومية تنافرية بل تكاملية. فكنت تجد القوات المسلحة تؤمن الطريق والمدرسة حيث لا تصل وزارتا الأشغال والتربية والتعليم. وفي الخدمات الطبية الملكية استغلت موراد الدفاع في فترة الإغداق العربي على دول المواجهة لتأسيس أفضل الكوادر والمراكز الطبية في المنطقة.
باختصار كانت البيروقراطية ذراع التنمية الضاربة، فكم من عائلة لم تعرف غير ناحية بائسة في الصحراء فتح أطفالها عيونهم على الدنيا في أرقى مدن الغرب بفعل بعثة لوزارة التربية أو دورة للقوات المسلحة. ومع أن العائدين كان يحصدهم التقاعد المبكر في العادة إلا أنهم كانوا يجدون آفاق عمل في خارج الوطن أو في القطاع الخاص ليراكموا على ما أنجز.
سياسيا، تمكنت البيروقراطية من صهر مكونات المجتمع الأردني وبناء هوية وطنية جامعة. فلم تكن حكرا على الشرق أردنيين؛ داود حنانيا الذي لمع في عهده نجم الخدمات الطبية الملكية كان مقدسيا، وإسحق الفرحان الذي أسس وزارة التربية والتعليم بمفهومها الحديث كان من عين كارم. لم يتعلم حنانيا جراحة القلب على حساب القطاع المصرفي، ولم تبتعث الحركة الإسلامية اسحق الفرحان إلى جامعة كولومبيا لإتمام الدكتوراه. الدولة ، دولة المواطنين لا الموط?Zنين من ابتعثتهم.
من نكد الدنيا على الحر أن غدت كلمة " بيروقراطية " شتيمة ترمى في وجه القابضين على جمر القانون والنظام والتعليمات. مصدر الشتيمة ليس من يريدون تطوير القطاع العام ومحاربة الفساد وتعزيز النزاهة والشفافية. بل من قطاع طرق في زمن الغفلة فوجئوا بحراس على قافلة حسبوها قيد النهب.
في آخر استطلاع أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية ظهر أن أكثر من خمسين في المئة تراجعت مداخيلهم في آخر سنتين مقابل ثلاثة عشر في المئة زادت مداخيلهم، وموظفو الحكومة هم عماد الفئة الأولى. والفقر هو البيئة التي تشجع الموظف على الفساد. فهو لا يفسد من أجل شراء قصر في جزر الكناري وإنما لتأمين قسط للجامعة، أو تسديد قرض سيارة، لا بل تأمين قوت أطفاله.
في ذروة الصيف سمعت من زملاء يستغربون سرعة الإنجاز في دائرة الأحوال المدنية والجوازات، والمغتربون أقدر على المقارنة حين يسمعون عن معاناة زملائهم في دول عربية أخرى. و صدف أن كان لي معاملة وشاهدت ذلك بعيني. واستمعت إلى الموظفين وقصصهم وطموحاتهم، فكل ما يريدونه مساواتهم بموظفي وزارة الداخلية في الدرجة ( لم أعد أذكر أي درجة !).
في المقابل تستمع إلى شكاوى عن انتشار الفساد في قطاعات كثيرة. ولا يمكن تجاهل مشاكل كبرى ومحسوبيات و... ذلك كله يؤكد أننا على مفترق طريق. فإما أن نجني ما زرع في العقود الأربعة الخالية ونضاعف الرقعة الزراعية، وإما أن تأكل سنوات عجاف مقبلة ما أنجز. ونتسلى بالحنين إلى زمن لن يعود.
في مفترق الطريق نحتاج خطوات غير مسبوقة تعزيزا للمبدع والمستقيم والمثابر وتعزيرا للفاشل والفاسد والكسول. وفي زمان خلا سن وصفي التل قانونا للتطهير الإداري. وعلى عرفية القانون الذي حصرت مدة تطبيقه بستة أشهر إلا أنه أعطى الإرداة السياسية أداة فاعلة للإصلاح. وفي استطلاع تقرير التنمية الإنسانية الذي شمل دولا عربية من بينها الأردن اتضح أن الأكثرية ترى أن الفساد ينتشر في كبار الموظفين لا صغارهم. بمعنى أن الإصلاح سياسي يتعلق بالوظائف العليا لا جنائي يطارد صغار الموظفين.
لا صوت يعلو على صوت القطاع الخاص والمجتمع المدني، كذبة كذبناها وصدقناها. وراج أن العقبة في وجه المبادرة والإبداع والتطوير هي البيروقراطية. مع أنها في العالم الحديث ظلت السكة الصلبة التي تسير عليها عجلات القطاع الخاص والمجتمع المدني. وقد شهدنا أفعال بعض أدعياء القطاع الخاص عندما تولوا وزارات، فجعلوا منها مكاتب لشركاتهم وكأنهم في جمهوريات الموز، ولم نر أثرا لوعودهم العجيبة يوم كانوا في القطاع الخاص.
الدرجة الأولى في سلم التحضر هي ذلك الموظف القابع وراء مكتبه. وحاله علامة التأخر أو التقدم. وبدونه تغدو الدول مضارب بدو رحل. تقتلع أوتادها وتحمل على ظهور الجمال. وقبل القفز على درجات السلم لتعطى الأولوية للدرجة الأولى. وفي زوبعة من زوابعنا التي تثور في فنجان سميت وزارة بوزارة تطوير القطاع العام، وأسندت تأكيدا على أهميتها لنائب رئيس وزراء وصاحب الأجندة الوطنية، ومع الزمن تحولت الوزارة إلى عبء على القطاع العام وصارت الأجندة "سي دي" مهملا وطار صاحبها إلى البنك الدولي.
بلا زوابع يحسن أن نبدأ بالخطوة الأولى الصغيرة، وإلا صرنا أسوأ من مصر وسورية و.. مع التقدير للخطوات الكبيرة وصولا إلى الألف ميل.
" الغد "


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد