كما هو متوقع أجهضت روسيا على قرار مجلس الأمن حول سوريا فيما يتعلق بالتوصل إلى هدنة ووقف القتال بين الأطراف المتحاربة خصوصا في مدينة حلب التي يبدو أن النظام والمتحالفين فيها يهدفون إلى تفريغها من السنة من سكانها كما حدث في مدينة داريا قبل أشهر. القراءة المعقمة لوضع الروس ثقلهم، ليس بالفيتو وحده، إلى جانب الأسد وحلفائه من الإيرانيين، والعراقيين الشيعة وحزب الله وغيرهم من المرتزقة في حربه ضد شعبه بل وبالثقل السياسي والعسكري تقود إلى تساؤل يطرح نفسه: لماذا هذا التهافت على الوقوف إلى جانب نظام غير مرغوب بقاؤه في الحكم من قبل الغالبية من شعبه الذي يعاني الأمرين، أمر النظام من الداخل، وأمر حلفائه الذين تدخلوا لحمايته من الانهيار من الخارج بالرغم من الضغوط التي تعرض لها الروس ويتعرضون لها لتليين مواقفهم من الموقف في سوريا برمته؟
الواقع السياسي والاقتصادي والعسكري يفرض نفسه في الوضع الذي أوجده الروس في سوريا على قاعدة إما أنا أو لا أحد غيري، أو أقلب الطاولة على رؤوس الجميع. من الناحية السياسية، ما يدور في خلد الروس أن إنهاء الحرب على الإرهاب وفصل المعارضة المعتدلة عما يطلق عليهم إرهابيون مثل جبهة النصرة على سبيل المثال لا الحصر ربما بموجب تفاهمات توصلوا إليها مع الأمريكان ينبغي أن يكون لها الأولوية على العودة إلى طاولة المفاوضات التي تجمع طرفي النزاع في سوريا النظام والمعارضة، وصولا إلى حل سلمي أو قل سياسي للمعضلة السورية. ومما يبدو بالنسبة للروس أن الامريكيين لم يوفوا بوعدهم بل إن الروس يتهمونهم باستغلال الهدنة لإيصال المساعدات الإنسانية والعسكرية إلى قوى المعارضة دعما لموقفها العسكري والاستمرار في مواجهة قوات النظام وحلفائه، فكانت النتيجة تدخل الروس بقوة نيران كثيفة ساعدت قوات النظام في تحقيق اختراقات في الجانب الشرقي من حلب حيث تتحصن قوى المعارضة، وما يعتبرونه هم أي الروس منظمات إرهابية، كما سلف ذكره.
في الناحية العسكرية، تدرك موسكو تمام الإدراك أن سوريا هي موطئ القدم الوحيد لها في منطقة البحر المتوسط، وهو ما أدى بهم إلى تعزيز تواجدهم العسكري في سوريا وفي مدينة طرطوس تحديدا التي تعتبر قاعدة بحرية لسفنهم في المتوسط، وفي قاعدة حيميم التي وضعوا فيها نخبة أسلحتهم وأحدثها في مجال الطيران الحربي والصواريخ المضادة للطائرات من أنظمة إس إس 300 وإس إس 400. وعندما وضعت القيادة الأمريكية خياراتها على الطاولة لمواجهة المأساة الإنسانية التي يتعرض لها السكان في حلب ومنها توجيه ضربات عسكرية للنظام السوري، كان الرد الروسي واضحا من أن الهجوم على سوريا يعني استهداف القوات الروسية، وأنه سيتم استهداف أية طائرة أو صاروخ في الأجواء السورية من قبل القوات الروسية المتواجدة على الأرض، وهو ما أوقف احتمالات التدخل العسكري الأمريكي ولو بشكل رمزي. لماذا هذا كله؟ تدرك القيادة الروسية أن خسارة موقعها في سوريا يعني مزيد من الحصار الدولي لروسيا، بما يعني اضمحلال تأثيرها على الاحداث في العالم وعدم قدرتها على المناورة العسكرية، وحاجتها إلى خطوط إمداد طويلة والسير في ممرات مائية تحتاج إلى أوقات أطول للوصول إلى حيث ترغب، ما يؤثر سلبا على النتائج التي تكون تسعى إليها في أية بقعة من بقاع الصراع في العالم.
أما اقتصاديا، فإن روسيا تسعى من خلال تثبيت وجودها في روسيا، وفرض حل يناسب النظام السوري وتحت مظلته، إلى تجنب المزيد من الحصار الأمريكي والأوروبي والاقتراب أكثر فأكثر من حدودها، وإثارة مزيد من القلاقل لها، وتعطيل مصالحها الاقتصادية في آسيا الوسطى خصوصا في ظل حاجتها إلى تصدير نفطها وغازها من خلال أنابيب تمتد مئات بل وربما آلاف الكيلو مترات من خلال هذه المنطقة.
من هنا يتبين الإصرار الروسي في حسم الموقف العسكري في سوريا لصالح النظام، وهو ربما سيتحقق في المستقبل في ظل التراجع الأمريكي، وعدم الرغبة الأمريكية في الدخول في مواجهة عسكرية مع الروس في سوريا، حيث يسود الاعتقاد أن الأمريكيين ربما عملوا على توريط الروس هناك في معركة استنزاف عسكرية كبيرة كما حصل في أفغانستان، ولكن مما يظهر أن الروس ربما أمسكوا جيدا بخطوط اللعبة هذه المرة، فكان أن تدخلوا في الأرض السورية كما لو أنها قطعة من روسيا، ويحاولون فرض الشروط والحلول هناك بالطريقة التي يريدون في لعبة واضحة تستهدف استعادة الأمجاد العظمى لدولة الاتحاد السوفياتي الذي انهار في تسعينيات القرن الماضي. وتبقى النتيجة في المحصلة، الثمن المرتفع والمرتفع للغاية الذي دفعه ويدفعه الشعب السوري من دمه وأبنائه ومكوناته، وقدراته وبنيته التحتية، وما تحقق من مكتسبات لدولة الكيان الصهيوني في الجانب الأمني نتيجة انهيار القدرات العسكرية للجيش السوري، وبقاء الحدود السورية الفلسطينية المحتلة هادئة لعدد غير معلوم من السنوات لم يحلم به قادة الكيان الإسرائيلي في يوم من الأيام.
كاتب ومحلل سياسي