الحقيقة الضائعة

mainThumb

28-12-2020 03:39 PM

قيل عندما تعلو نبرات الصوت، إنما تعبر عن صدق صاحبها، أما الحقيقة فهي عندما تصدر عن قلب صادق تعبر عن ذاتها بهدوء فيتجلى الصدق بعيداً عن الضجيج والصراخ . ولكنه يتجلى بعمق النبرات، وهدوئها، ويتسلل إلى العقل، فالصوت الهاديء يسري إلى العقل أولا ومنه يتسلل إلى القلب فتتحرك المشاعر، وتنير العقل ليسلط ضوءه، ويستشف الحقيقة، لذا عندما يعبر الحبيب عن حبه للمحبوب يعبر بهدوء لأنه يكون قد فرز اختياره له بعقله وبالتالي تتجاوب العواطف ، وتفرض الحقيقة ذاتها متسلحة بالمشاعر والأحاسيس، أما الصراخ فيهاجم القلب أولا وتكون ردة فعلنا تجاهه انفعالية، انبثقت كإشارة. رافضة . سريعة، لا تحتكم للمنطق، غير مدروسة. ولكن عندما يهدأ الصراخ ، ويحتكم إلى العقل. ويشارك القلب في استجلاء الأمر. حينها يتبين المرء أن الصراخ إنما أضفى ضوضاء ، وشوشرة على الفكر تكون سريعة النفاذ إليه وسريعة التسلل خارجه، فهي تغادرنا ولا تستحوذ على إدراكنا.
 
والإدراك يكتسب مهاراته من ثقافة الشخص أولا، ومن علاقاته الإجتماعية، وسلوكه ، ودرجة تحصيله العلمي، وعمق انتمائه للوطن، وبيئته عامة، وبهذه العوامل كافة يتشكل ميزان يكون ضابطا لأحكامنا ، ويوازن بين القلب والعقل ليستكشف الحقائق من الزيف والبهتان ، وليحثنا على استجلاء الأمور ، فنلجأ للاسترادة من معرفتنا، ومن يدرك هذه الحقيقة يسعى للارتقاء بذاته، ويعمل على تثقيف نفسه ، ويتسلح بعلمه ومعرفته، وبشتى الوسائل المتاحة له، وبغير ذلك يكون ميزانه ضعيفا ، وقابلا للميلان ، ومتى مال الميزان ضاعت الحقيقة.
 
ومن الملاحظ في وطننا العربي آن صوت المسؤول يكون مرتفعا، فمدير المدرسة مثلا يصرخ ليفرض هيمنته على الطلاب فيهابونه، وهم فعلا يهابونه فقط إذا ارتفع صوته، لأننا منذ نعومة أظفارنا تربينا على القمع، ولا أريد أن أعمم إلا أن هذا ينطبق على الأغلبية، فمدير الشركة أو المؤسسة التي نعمل بها دائما على صواب، ولا يُناقش، ولو أبديت اعتراضا أمام رئيسك سرعان ما يلجمك ويضع لك حدا تضطر أن تتراجع وتهادن وتذعن وإلا فقدت وظيفتك ومصدر رزقك، فالميزان في مجتمعاتنا مائل وإن ارتأى أحدهم أن يعدله متسلحا بوعيه وثقافته سيجد نفسه وحيدا، ولن يجد صدى لكلامه إلا داخل الأبواب المغلقة، فيضطر أن يدوس على المكتسبات التي اكتسبها من إثراء ذاته الفكرية والمعرفية، ويتغاضى عن كل ذلك ليسير المركب في أمان ولا يرتطم بصخرة المدير فيتحطم ، ولذلك نرى الحقيقة في مجتمعاتنا ضائعة ولا توجد إلا بين ثنايا الكتب التي يُنظّر أصحابها علينا بالحقيقة المطمورة التي لن تزيح عنها الوأد إلا عندما نتحرر من العبودية التي نمارسها على أنفسنا بمحض إرادتنا ولا نكف عن التغني بالحرية الحلم التي نأمل أن تتحول إلى واقع يوما ما .
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد