السوسنة - ازدهر الشعر في العصر الأموي و اتسعت آفاقه و تعددت مراميه ، تبعًا لحالة العصر الجديد والحراك السياسي النَّشط المتمثل بالأحزاب السياسية و الحراكات القبلية و المذهبية ، التي قد تتحول في بعض الأحيان إلى صراع عنيف تُراق فيه الدماء . فدافع كلّ حزب عن مبادئه و معتقداته بشتّى الوسائل و الطرق ، و دعت الأحزاب الأنصار إليها مستخدمة كافة الوسائل الدعائية لكسب التأييد و الدعم ، فكان الشعراء هم أول من خاض غمار هذه المرحلة ، إذ إنهم صفوة المجتمع و خاصته ، و ذوو الفكر والثقافة ، فانبرَوا يدافعون عن جماعاتهم السياسية و يرثون شهداءهم و يمدحون زعماءهم .
و قد امتاز شعر كل حزب بميزاتٍ تحاكي الحالة الفكرية و العقدية بل و الاجتماعية أيضا لكل حزب ، فالحِجاج و المنطق و القول بالإمامة و التقية نجدها في شعر الشيعة ، و نفتقدها في شعر الزبيرين على قلته ، أما عند الخوارج فالإنسان هو المحور الأساسي فالخارجي يضحي بروحه في سبيل عقيدته التي يؤمن إيمانًا لا يُخالجه شك أو ريبة ، لنرى الشعر الخارجي تغلب على موضوعاته الرثاء و يندر فيها المدح للزعيم أو القائد فالجماعة الخارجية هي التي تستحق المدح و الثناء ، و هذا نابع من إيمانهم القوي بمعتقداتهم ، فهم يؤمنون بالفكرة لا بالأشخاص .
العوامل المؤثرة في شعر الخوارج :
كما أسهمت عدة عوامل في تكوين الصورة النهائية للقصيدة السياسية الخاصة بكل حزب ، فظهر شعر الخوارج خاضعًا لمؤثرين قويين الانتماء العقدي الديني ، و الانتماء القبلي البدوي ، إذ ينتمي معظم الخوارج إلى قبائل تميم وطيء و بكر و شيبان ، فالطرماح القحطاني من طيء ، وهو الخارجي الوحيد الذي جمع شعره في ديوان ، و قطري بن الفجاءة شاعر الموت من تميم ، و عمران بن حطان الشيباني الذي اعتنق المذهب الخارجي و صار من أعلامه .
سمات شعر الخوارج :
لما كان معظم شعرائهم من القبائل العربية البدوية التي خاضت معارك خلّدها التاريخ العربي، اتسم شعرهم بقوة الأسلوب ، و شيوع اللفظ الغريب ، و اتباع الأسلوب الجاهلي ، و العاطفة الدينية البسيطة الخالية من المنطق والجدل .
و لأن معظم شعراء الخوارج من حفظة القرآن والشعر و الحديث ، ففصاحة اللّسان و بيانه أهم ما يتّسم به العربي الخارجي ، و هم الذين قال فيهم عبيد الله بن زياد عندما حكموه في شأنهم: " لكلام هؤلاء أسرع في قلوب الناس من النار إلى اليراع " .
و لما كان شعراؤهم هم قادتهم و المتكلمون باسم جماعاتهم ، طغت قوة الأسلوب على شعرهم ، فكما هم أقوياء في ساحات القتال يتخيرون موقع الضرب بقوة ، نراهم يتخيرون موقع اللفظ متمكنين من سبك الكلام كما هم متمكنين في ساحات المعارك ، و شعرهم يخاطب عاطفة المستمع بالدرجة الأولى .
و رغم قوة أسلوبهم الشعري إلا أنه يخلو من الصور الفنية و المحسنات ، فشعرهم أغلبه قيل في ساحات المعارك ، فلم تكن لهم الفرصة غالبا للاعتناء بالصورة الشعرية .
و شعرهم تسيطر عليه سهولة اللفظ و ألفتها ، إلا أن الأثر البدوي للفظ لم يغب ْ في شعرهم و هذا ما يبدو واضحا في شعر الطرماح :
لذكرى هوى أضمرته القلو ب بين النوائط والجانحه
ظعائن شِمن قريح الخريفْ من الأنجم الفُرغ والذابحهْ
و قوله :
وكأن قِهزَةَ تاجرٍ جِيبت لهُ لِفُضُول أسفَلِها كِفافٌ أسودُ
هاجت به كُسُبٌ تلعلع للطَّوى والحرصِ، يدألُ خلفهُن المؤسدَ
صُعرُ السوالف بالجِراءَ كأنها خلف الطرائد خشرمٌ متبددُ
و استخدام الغريب من اللفظ لم يكن في كل المواضع بل في الأبيات التي يعترض فيها الشاعر لوصف البادية و الفلاة و الحيوانات الوحشية ، فقصائد المدح و الهجاء تكاد تخلو من الغريب .
و صحيح أن الشعر الخارجي جاء في معظمه على صورة مقطوعات ، إلّا أنه يمكن تلمس الصورة الجاهليه في بعضه ، و خصوصا في شعر الطرماح ، و المقصود هنا ، أن يأتي الشاعر بالقصيدة على النمط الجاهلي إما في المطلع و إما من خلال وصف البادية و ما يعترض فيها من الحيوانات الصحراوية و الوحوش المفترسة ، و يعود سبب هذا التقليد الجاهلي في قصائدهم إلى نشأتهم البدوية ، و هذا ما يبدو واضحا في قول الطرماح :
طال في رسم مهدد ربده و عفا و استوى به بلدُه
و قوله : شتّ شعب الحي بعد التئام و شجاك الربع ربع المقام
و قوله : وكأن قِهزَةَ تاجرٍ جِيبت لهُ لِفُضُول أسفَلِها كِفافٌ أسودُ
هاجت به كُسُبٌ تلعلع للطَّوى والحرصِ، يدألُ خلفهُن المؤسدَ
صُعرُ السوالف بالجِراءَ كأنها خلف الطرائد خشرمٌ متبددُ
و قوله : ألا أيها الليل الطويل ألا أصبحي ببمّ ، وما الإصباح منك بأروح
و الخوارج و إن ابتعدوا عما يشتت الجماعة من تمسك بغير عقيدتهم إلا أن انتماءهم القبلي لم يثنهم عن عصبيتهم ، فها هو الطرماح يمدح أحد رؤساء قحطان لمكانته القبلية لا لشيء آخر ، و هو يمدحة إعلاء لمكانته و مكانة قحطان بين العرب، يقول في مدح يزيد الأزدي:
أيزيدُ يا ابن ذرا الحواصن والعقائل للعقائلْ
وابن المتوّج للمتوج والحلاحل للحُلاحل
و من العصبية القبلية أيضا تعصبه للقبائل القحطانية في قوله :
منا الفوارس والأملاك ، قد علمت عليّا معدّ، ومن كل ذي حسب
.........................................
المراجع :
- إحسان عباس، ( 1974 ) شعر الخوارج، بيروت : دار الثقافة
- لؤي صافي ( 1998 ) العقيدة والسياسة ، معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية ، فيرجينيا ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، ط2
- الطرماح (1994 ) ، ديوان الطرماح، ت: عزة حسن، ط 2 ، بيروت : الشرق العربي
- محمد أبو زهرة (1996) تاريخ المذاهب الإسلامية ، ج 1 ، القاهرة : دار الفكر العربي