دائرة الموت والشهرة

mainThumb

22-08-2022 01:28 PM

كيف تغيّرت المفاهيم وأخذت مجرىً آخر غير الذي كانت عليه، حتى قادتنا إلى كل هذا العنف؟ كيف لم يعد القصاص مرتبطا بالجريمة، بل بالفكر المغاير لنا، وكيف لم تعد قاعدة «السن بالسن والعين بالعين والبادئ أظلم» قاعدة للردّ على المعتدي، أو محاكمته محاكمةً عادلة، بل اختصرت في إصدار فتوى بالقتل مباشرة؟ فأي ردّة فعل ننتظرها مستقبلا من المسلمين وغير المسلمين تجاه من يخالفهم الرأي؟
منذ عشرين سنة ربما تداولنا كتاب «آيات شيطانية» ككتاب ممنوع، بترجمة بائسة، وطباعة سيئة، جعلتنا نكوّن صورة أقل ما يقال عنها إنها تختصر شخصا لا يرقى لمستوى الأدب. هكذا تم تصنيف سلمان رشدي من قبل من قرأوه بعد إهدار دمه، دخل الكتاب وصاحبه دائرة الشهرة بعد إدانته بالتطاول على الإسلام، وكأنّه الشخص الوحيد الذي فعل ذلك. لكن تلك الرسالة في البداية وُجّهت للمسلمين فقط، كون سلمان رشدي كان مسلما، للحدّ من أي تطاول على «السلطة الممثلة للمسلمين» لكن الأمر تطوّر ولم يعد ممكنا السيطرة عليه، أصبحت فتوى إهدار دم أي كاتب واردة، سواء كان مسلما أم غير مسلم في حال انتقد أي شيء من المرويات المتعلّقة بتاريخ الإسلام والمسلمين.
الغريب أنه في خلال الثلاثين سنة التي شهدت كراهية لا حدود لها لكتاب «آيات شيطانية» للكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي لا أحد ردّ على محتوى الكتاب بكتاب آخر، أو ببحث يستند لمراجع ويدحض ما ورد فيه؟ ولا أحد أثبت بطلان ما ورد فيه. مضت الفتوى التي أطلقها (رأس دولة) مدعومة بمكافأة مالية تفوق جائزة نوبل للآداب لتصبح ثابتا من ثوابت أمة تلاحق المختلِف ليس إلى عقر داره فقط، بل إلى عقر الديار التي يتعايش فيها الأجناس جميعهم بحرية، ويعيشون تحت ظل القانون دون تمييز بين رئيس، أو وزير، أو ثري، أو رجل دين.
لم يظهر الرّد العقلاني ليعطي لآيات شيطانية حجمها الحقيقي، إلاّ أن مكافأة قتل صاحبها كانت ضخمة، بحيث منحته شهرة عالمية تفوق شهرة من نالوا أرفع الجوائز الأدبية على الإطلاق.. أي نعم عاش حياة قلقة مليئة بالخوف على نفسه وعلى ناشريه وعلى مترجميه، وقد قتل بعضهم، إلاّ أنه بلغ الرابعة والسبعين وأصدر حوالي عشرين كتابا، ونجا من محاولتي اغتيال كانت أولاهما في العام نفسه الذي أهدر فيه دمه. لكن قبل الذهاب بعيدا في هذا الطرح نتذكّر معا المناظرة التاريخية التي دارت أحداثها في معرض الكتاب في القاهرة، بين فرج فودة ومحمد خلف الله من جهة، ومحمد عمارة ومأمون الهضيبي ومحمد الغزالي من جهة أخرى، حول «مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية» والتي انتهت نهاية مأساوية حين تمّ تكفير فودة، وتم اغتياله، مع أنه لم يعلن إلحاده، وشهد له كل من يعرفه عن قرب أنه ابن عائلة مسلمة محافظة وظلّ على إسلامه إلى لحظة اغتياله.
عن طعن سلمان رشدي وتهليل الكثيرين للحادثة بشكل لافت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما لو أنها انتصار للإسلام، جعلنا نتذكّر مباشرة الطعنة التي تلقّاها الكاتب المصري نجيب محفوظ ونجا منها آنذاك (عاش 95 عاما وأصدر حوالي خمسين عملا) الطعنة نفسها من شاب لم يقرأ أي كتاب لنجيب محفوظ! المحزن أن كل حادثة طعن كهذه تليها ردات فعل عديدة، أولها ارتفاع نسبة مبيعات الكاتب، فيُقرأ بشكل أوسع مما كان عليه في حياته، وكأن الكاتب يجب أن يدفع هذه الضريبة الغالية لكي ينال شرف القراءة بهذا التّدفق الذي لا يمكن إيقافه. وهذا تقاطع غريب عجيب للموت والشهرة في دائرة واحدة.
الأمر المحزن الآخر أن حدثا كهذا حين يعتبر انتصارا للإسلام، فهو سيزيد من حدة الكراهية لنا كمسلمين، وهذا سيجعلنا نترقب حوادث موجّهة تجاه المسلمين المقيمين في الغرب، وتحديدا ضد النساء المحجبات، لأن من السهل رصد انتمائهن الديني بسبب لباسهن. لكن الأسوأ من كل هذا هو أن مسلسل العنف يصعب وضع نهاية له، إذ يبدأ بالتطرف ولا ينتهي حتى يطحن الحي والميت أمامه. إنّ أي تبرير للقتل، يعني فتح أبواب الجريمة على مصراعيه، للعودة للعصور الغابرة التي كان فيها الشخص يأخذ ثأره بنفسه، ويبقى الثأر متوارثا من جيل لجيل وتبقى التصفيات مستمرة يذهب ضحيتها الأبرياء أكثر من غيرهم، فقط لأن القانون غائب، ولم يوقف تلك الغريزة البدائية التي استحوذت على العقل ونالت منه.
منذ 2016 دقّت لجنة مدينة نيويورك لحقوق الإنسان جرس الخطر في تقرير من أربع وثلاثين صفحة حول كراهية الأجانب من عرب وآسيويين وسيخ ويهود ومسلمين، وأكّد التقرير أن واحدة من أربع محجبات من سكّان نيويورك تتعرّض لهجوم وفق استطلاع شمل أربعمئة ألف شخص من سكان نيويورك نفسها، والمؤسف أن أغلبهن لا يتقدمن بأي شكوى للشرطة خوفا من الصدام مع رجال من الشرطة يحملون الكراهية نفسها لدينهن وجنسياتهن، أو خوفا من عائلاتهن التي في الغالب لا توفّر أي حماية لهن، بل تقترح بقاءهن في البيت والتقليل من خروجهن.
امرأة من بين أربع نساء، رقم مرتفع جدا ويُتَوَقّع أن يرتفع أكثر بعد الاعتداء على سلمان رشدي. فالتطرُّف «مرض» لا يمكن السيطرة عليه، إذا وجد العوامل المحفّزة له، والتي تغذي العنصريين بالدرجة الأولى وتبرر لهم أفعالهم. والمشكلة لا تقتصر على نيويورك فقط، ففي باريس عاصمة الحريات تتعرّض يوميا نساء متحجبات في الأماكن العامة للعنف اللفظي أو الجسدي أحيانا، والظّاهرة في تزايد منذ 2013.
في بلجيكا سنة 2018 اعتدى شابان على صبية محجبة، في وضح النّهار وخلعا عنها حجابها ومزقا ثيابها وجرحاها بالسكين في صدرها، مكررين الجملة الشهيرة التي يستعملها المتطرفون في الغرب «عودي إلى بلادك». تقول إحدى النّاشطات المسلمات في جمعية أمريكية لحماية حقوق النساء: «إلى متى سنبقى نتحمّل النتائج الوخيمة لتهوّر الرّجال، ألا يمكن أن يتوقف هذا العنف بكل بساطة ونعيش في سلام؟».
إن الفرق بين الاعتداء على سلمان رشدي، أو نجيب محفوظ، أو أي كاتب آخر بسبب «فتوى» يزيد الأمور تعقيدا، فهؤلاء رموز وإن خسروا حياتهم، فإن أفكارهم لا تموت، بل تزداد انتشارا، وهذا سر دائرة الموت والشهرة التي تحضنهم في حياتهم ومماتهم، أمّا السيدة التي ترتدي الحجاب وتعيش بسلام على الهامش اللاّمرئي من العالم، والتي تجد نفسها هدفا سهلا لمنتقم عنصري فتخسر حياتها وتترك خلفها عائلة مفجوعة، أو أيتاما، أو أهلا تعيلهم، فلن تكون أكثر من رقم في قائمة لن يتذكّرها أحد.
عموما الرّقابة ليست جديدة على الشعراء والكتّاب، ومنذ زمن بعيد كان هؤلاء يختارون بين الصمت والبقاء على قيد الحياة أو نشر أفكارهم. في الغرب كانت الكنيسة هي السلطة الحاكمة والرقيب إلى مطلع القرن العشرين، وما يحدث اليوم في العالم الإسلامي، يجرّ الغرب مجدّدا لعودة السلطة الدينية وفتح أبواب صراعات جديدة، لكن تنبهنا عالمة الاجتماع الإيرانية مهناز شيرالي، إلى أن حادثة الاعتداء على رشدي تضعنا أمام ظاهرة يعيشها أبناء المهاجرين في الغرب، الذين عانوا من الازدراء تجاههم على مدى عشرات السنين، ما جعلهم يطوّرون علاقة هي مزيج من الحب والكراهية للبلد المضيف. وهذا ما يفسر التحاق عشرات الشبان الأوروبيين بـ»داعش» مثلا أغلبهم من أصول مغاربية. المأساة الأكبر هي حين يبرز تفسير آخر لهذا الاعتداء على أنه ورقة سياسية، هنا نتساءل عن «أدباء الموت والشهرة» هل هم مجرّد أكباش فداء؟ أم «صناعة مقصودة» لاستعمالها لدى الضرورة؟ كوننا نقرأ الكثير ونعرف أدباء لا يكتبون سوى الأدب المبتذل، المليء بشتى الشتائم والألفاظ البذيئة، ومع هذا يعيشون في سلام وينعمون بحياة هادئة مستقرة. رجاء من فهم الموضوع يشرح لي إذ يبدو لي أني سقطت سهوا من كوكب آخر.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد