شبح جديد يحوم في أوروبا

mainThumb

14-10-2022 09:17 AM

بيبا بيغ شخصيّة (خنزيرة) كرتونيّة شهيرة وضيفة دائمة على شاشات التلفزيونات في بريطانيا وأوروبا تتوجه للأطفال في عمر الحضانة، إلا أنّها خلال الأسابيع القليلة الماضية أصبحت محور جدل صاخب في أروقة السياسة ووسائل الإعلام داخل إيطاليا حتى أن النائب عن الحزب الديمقراطي أليساندرو زان كتب ساخراً على تويتر «شبح جديد يحوم في أوروبا: إنّها بيبا بيغ» – على نسق مفتتح البيان الشيوعي الشهير «شبح جديد يحوم في أوروبا: إنها الشيوعيّة» -. فالشخصيّة التي أُطلقت قبل 18 عاماً من قبل الفنانين البريطانيين مارك باركر ونيفيل آستلي قدّمت حلقة – سميّت بـ»عائلات» – تظهر فيها ولأمر مرّة برفقة أمين مثليتين، ثم تعلن بفخر: «أنا أعيش مع أمي وأمي الأخرى. أم تعمل طبيبة وأمّ تطبخ السباغيتي». ثم تجلس (العائلة) لتناول وجبة معاً.
الحلقة التي بثّت على الشاشات البريطانيّة أولاً لم تثر كبير جدل في المملكة المتحدة، بعدما أصبح معتاداً في هذه البلاد تقديم الشخصيات المثليّة ومتحولة الجنس – بمناسبة وبغير مناسبة أحياناً – في مختلف الأعمال التلفزيونية والسينمائيّة، وحيث تتوفر لوبيّات قويّة ونشطة يقال إنّها بعثت بعريضة عبر الإنترنت للفنانين باركر وآستلي لإضافة شخصيات مثلية إلى برنامجهما. لكنّ عضواً بارزاً في حزب الإخوة الإيطاليين اليميني المتطرفة، والذي فاز بتأييد عريض في الانتخابات العامة الأخيرة الشهر الماضي، ومن المتوقع أن تشكّل زعيمته جورجيا ميلوني الحكومة المقبلة – حذّر علناً هيئة الإذاعة والتلفزيون الحكومية (راي) من عرض حلقة بيبا بيغ تلك، معتبراً أنّ بث الحلقة في إيطاليا، عبر تلفزيون عام يشتري حقوق البرنامج بأموال تجمع من كافة الإيطاليين سيكون «أمراً غير مقبول». ونقل عن فيديريكو موليكوني المكلّف بملف الثقافة في الحزب قوله «إننا لا يمكننا قبول تلقين النوع الاجتماعي»، وأدان محاولات التلاعب بالصوابياّت السياسيّة على حساب «أطفالنا»، متسائلاً «ألا يمكن للأطفال أن يكونوا مجرد أطفال؟».
وقد تسبب هذا التحذير في عاصفة من جدل بين مؤيّد ومعارض.
إيزابيلا راوتي، عضو مجلس الشيوخ الإيطاليّ والمتحدثة باسم وزارة الخارجية للمساواة في الحقوق، قالت مثلاً إنها تأمل ألا تعمل هيئة التلفزيون الوطنية «كمكبر صوت للأيديولوجيات المثيرة للجدل». وصرّح فابيو رامبيلي، نائب رئيس مجلس النواب الإيطالي، العضو المؤسس في حزب الأخوّة الإيطاليين، «المشكلة ليست بشأن بيبا بيغ بقدر ما هي في «تلقين الأطفال قيماً جدليّة عبر الإنترنت ومن خلال الرسوم المتحركة على التلفزيونات».
في المقابل، علّق نيكولا فراتوياني من حزب اليسار الإيطالي على تحذير موليكوني بقوله إن عائلات المثليين موجودة، وهي جزء من حياتنا اليومية، وإخفاء هذه الحقيقة يعني عدم العيش في هذا العالم».

أكثر بكثير من حلقة «بيبا بيغ»

من غير الواضح إذا كانت شبكة «راي» ستخضع لضغوط «الإخوة الإيطاليين» وتمتنع عن عرض الحلقة، لكن الجليّ أن مساحة هامّة لإبراز تأثير الحزب على الشأن الإيطالي ستكون ملعب القيم الاجتماعيّة. ومن المعروف أن الحزب ينادي بالحفاظ على القيم العائليّة التقليديّة في إيطاليا ويعارض طروحات ليبراليّة مثل زواج المثليين، وساهم بكثافة في الجهود لمنع تمرير قانون مكافحة رهاب المثلية، الذي صاغه السياسي (المثلي) في الحزب الديمقراطي، أليساندرو زان، في البرلمان العام الماضي.
والواقع فإن حزب رئيسة الوزراء المقبلة قد يجد في نهاية المطاف أن أجندة «الله، الوطن، العائلة» التي يحملها هي أمله الوحيد في ترك بصمة على المرحلة وعلى السجل التاريخي بعد وصوله إلى السلطة، إذ أن التحالف مع الناتو لن يسمح بهامش حركة واسع في الشؤون الدّولية، فيما مصاعب إيطاليا الماليّة ستفرض عليها الخضوع بشكل أو آخر لاشتراطات الاتحاد الأوروبيّ في المسائل الاقتصادية الداخليّة.
ويبدو أن حلقة (بيبا بيغ) أعطت ذوي التوجهات الليبراليّة في إيطاليا إنذاراً مبكراً من أن حكومة الرئيسة ميلوني، التي يهيمن عليها اليمين المحافظ، قد تعيد الساعة إلى الوراء، في ما يتعلّق بالحقوق الفردية والحريات الاجتماعية، وتدفع باتجاه تأجيج العداء تجاه أولئك الذين لا ينسجمون تماما مع نموذج العائلة الإيطالية المسيحيّة التقليدية، سواء أكان هؤلاء مهاجرين ألقت بهم البحار إلى إيطاليا، أو من فئات المثليين ومتحولي الجنس ومن في حكمهم، الذين يسود بينهم شعور عام بالغبن، وهشاشة المكانة في المجتمع، أقلّه مقارنة بما حققه أمثالهم في معظم دول الاتحاد الأوروبيّ الأخرى.
ولا تزال إيطاليا على العموم مجتمعاً تقليدياً لم يخطُ كبير خطوات تجاه تقبّل الإيطاليين من خلفيات عرقية مختلفة أو من توجهات جنسيّة مغايرة للسائد، ولم تشهد الدّولة سوى تقدم محدود وبطيء نحو مدّ تشريع المساواة في الحقوق بين جميع الإيطاليين إلى كافة الفئات المهمشة والأقليّات.

الرئيسة امرأة، ولكن؟

ميلوني نفسها في حياتها الخاصة، وهي التي ستتوج أوّل سيدة في تاريخ الجمهوريّة المعاصرة في إيطاليا تتولى منصب رئيس الوزراء، سلكت طريقا غير تقليدي، حيث تربت في كنف أم عزباء، ولم تتزوج أبدا من والد ابنتها الصغيرة. لكنها مع ذلك مدافعة متحمسة عن سياسات اجتماعية محافظة، بما في ذلك الدفاع عن «الأسرة الطبيعية»، ودعم رفع معدل المواليد المحليين داخل إيطاليا، وحظر تأجير الأرحام – خاصة بالنسبة للأزواج المثليين – إضافة إلى ما تشترك به مع معظم الأحزاب الإيطالية الأخرى لناحية وقف تدفق مزيد من المهاجرين إلى بلادها التي تراها، دون اعتذار، مسيحية كاثوليكيّة وحسب.
وعلى الرّغم من أنّ ميلوني أكدت تمسكها بقانون عام 1978 الذي يشرع الإجهاض، إلا أن ناشطين عديدين يخشون وقت إدارتها الحكومة فقد تعتمد أدوات أخرى لإعاقة الوصول إلى الإجهاض في بلد يتطلب فيه إنهاء الحمل فترات انتظار طويلة، ومتاهة بيروقراطية معقدة. وهناك إحصاءات تقول إن حوالي ثلثي أطباء التوليد وأمراض النساء في إيطاليا يرفضون حالياَ إجراء عمليات الإجهاض، في حين أن ثلث المستشفيات العامة تمتنع عن استقبال تلك العمليّات في مرافقها، فيما تسمح البقيّة غالباً لناشطين مناهضين للإجهاض بالتفاعل مع النساء اللواتي ينوين إنهاء حملهن سعياً لتغيير رأيهن.

ميلوني في مواجهة «بيبا بيغ»: صراع القيم وملعبه أوروبا الجديدة

قضية «بيبا بيغ» وميلوني وما بينهما في إيطاليا، موجز ساخر، ربّما عن صراعات هائلة تدور رحاها عبر البر الأوروبي كلّه بين القيم التقليديّة لقطاعات عريضة من السكان المحليين وتلك المستوردة برفقة المشروع الليبرالي. في فرنسا وإسبانيا والمجر والسويد والنرويج وبولندا وهولندا وبريطانيا هناك اليوم تيارات رئيسة تشارك في العمليّة السياسيّة – سواء في الحكم أو في المعارضة – ممن تناصر منطق القيم التقليديّة لميلوني، في مواجهة قيم (بيبا بيغ) التي تروّج لها النخب الليبراليّة – سواء في الحكم أو في المعارضة – بتوجهاتها الفردانيّة والمتحررة. وتجد تلك الصراعات مفتوحة في كل مكان: في البرلمانات والصحافة، كما في التلفزيون والسينما، وفي الجامعة والمدرسة، كما في الرياضة والأزياء، بل إن (الرئيس الروسيّ) بوتين نفسه يحشد جماهيره الآن في مواجهة الأوكران المدعومين من الغرب على راية الدّفاع عن القيم الأرثوذكسيّة التقليديّة للعائلة الروسيّة في مواجهة ثقافة (الانحلال) الليبرالي الأمريكي.
وبالطبع فإن بلادنا ليست في معزل عن مترتبات هذا الصراع الداخليّ في أوروبا، لا سيما ونحن دائماً في موضع التبعيّة الثقافية واستهلاك المستورد من الغرب، ولا بدّ أن معارك كثيرة تجري على الأرض بين القيم التقليدية المتوارثة وتلك الليبرالية المستجدة، وتؤثر سلباً وإيجاباً بالأجيال الجديدة وتساهم في صياغة وعيها، لكن لا عندنا «بيبا بيغ» على التلفزيون – لأسباب ثقافية بالطبع – ولا ميلوني في الحياة العامة كي تخرج تلك المعارك إلى العلن، وإنما أنظمة تظن أنها آمنة، وتتظاهر بالعمى عن مياه كثيرة تجري من تحتها.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد