تأملات في العيش داخل حلقة التكرار

تأملات في العيش داخل حلقة التكرار

19-12-2025 02:31 AM

مع اقتراب نهاية عام، يفرض السؤال نفسه: ماذا نرى حين ننظر حولنا؟ في غزّة، على سبيل المثال، نشاهد وقف إطلاق النار، الذي يكشف (ربما عن قصد) نوعا آخر من الرعب: بؤسٌ أشدّ هدوءا .هدوءٌ أشدّ في نظر العالم الخارجي؛ الذي يفترض أن ما جرى قد قيل فيه كل ما يمكن قوله، وكأن فضيحة الإبادة استنفدت لغتها. في الجانب الإسرائيلي، زفرة ارتياح؛ أما في الجانب الفلسطيني، فشعور متراكم باليأس والخوف.
أحوّل نظري إلى الضفّة الغربيّة، ترزح تحت عبءٍ يتفاقم يوما بعد يوم، في ظلّ نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. ونعاين خارج المدن، تطهيرا عرقيا إسرائيليا محموما، واعتداءاتٍ جماعيّة، كأنّها تسابق الزمن، ونادرا ما تجد هذه الوقائع صدى يُذكر في الأخبار، وفي ذلك درسٌ واضح: التفويض المطلق الممنوح لإسرائيل يمتدّ من النهر إلى البحر. وفي هذا وحده، نحن جميعا متّفقون.
ومع ذلك، يظلُّ الأفق الذي طالما تكررت صورته فوق إسرائيل وفلسطين غارقاً في الضباب، عسير الفهم. بالنسبة للفلسطينيين، تبدو الرؤية القريبة عكرةً موحشة؛ أما الرؤية البعيدة فتبدو أصفى وأكثر حدّة. بالنسبة للإسرائيليين، العكس تماما. يبدو الأمر مفارقة، لكنه ليس كذلك، هل تذكر ذلك الفيلم الذي أدّت بطولته باربرا سترايسند وإيف مونتان، «في يوم صافٍ يمكنك أن ترى إلى الأبد»؟ في إسرائيل وفلسطين، حتى في أصفى الأيام، يرفض المشهد أن يستقر. أشباح الماضي تمتزج بأطياف المستقبل؛ جرائم الأمس تُنذر بمظالم لم تقع بعد. وأنت على يقين تامٍّ بأن هذا الفيلم بعيد عن نهايته. ولهذا تأتي زفرة الارتياح الإسرائيلية مبكرة ومضلّلة، في ما يظل شعور الفلسطينيين بالهلع مشوبا بالأمل والتحدي.

التاريخ، ليس بالضرورة مقدّمة لما سيأتي، ولا كل حقبة تكرّر سابقتها. لكن نُخبنا الحاكمة مشهورة بتجاهل دروسه، وحين تلوح لها فرصة الابتكار، تنهض أسوأ غرائزها لتلبّي الدعوة

يتفاقم الألم مع اقتراب موسم احتفالي جديد، متوِّجا عاما آخر من الأحلام المهدرة والكوابيس المعاشة… ثم، في لحظة عابرة، يصل مقطع فيديو من غزة: أطفال يضحكون وهم يتأرجحون على أراجيح بدائية معلّقة فوق الأنقاض، فجأة، يصبح المساء أقل قلقا، ولو قليلا.
يقول أصدقائي الدمشقيون آن الأوان لزيارتي، واللبنانيون الذين زاروها يوافقونهم الرأي: بعضهم يرى المشهد لا يُفوَّت، وآخرون يعدّونه غاية في المتعة. غير أن أصدقائي الحلبيين أقل حماساً، وكذلك بعض زملائي الصحافيين. هذه الانطباعات، على فرديتها، تتلاقى في نقطة واحدة: تبدو آفاق سوريا قد تحسّنت كثيراً، وإن بفضل السقف المنخفض إلى حد البؤس الذي وضعه بشار الأسد. فإرث بشار، في النهاية، هو هذا السقف المنخفض البائس. أقرأ وأستمع، ولا يسعني إلا أن أتذكّر النشوة التي رافقت صعود رفيق الحريري إلى رئاسة الحكومة بعد الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). كانوا يسمونني «مفسدة الأفراح» حين حذّرت من أنّ المستنقعات أيضا قد تتلألأ ـ لكن لمعانها لا يدوم طويلا.
وهنا يكمن الخطر الدائم: حين يخرج مجتمع ما من ضيق إنساني خانق، يتوق ـ وبحق ـ إلى بعض الراحة، فيُسكت صوت العقل. هكذا هو المشهد في لبنان. الاحتفالات دائماً مبكرة. في بيروت، ترافقها فوضى مرورية وانهيارات عصبية نهاراً، ولهو أو بهرجة ليلاً. الأسئلة عن الأزمات القادمة تُدفع مؤقتا إلى الهامش، والشكوك تُؤجَّل إلى ما بعد رأس السنة. ولا حاجة للتذكير بأن هذا الترف حكر على قلّة.
هذه مجرد التقاليد المتوارثة لزمن الميلاد، وحفلات الوداع للسنة التي نجونا منها. كل عام جديد يحمل إيقاعه الخاص؛ عادات سرعان ما تصبح جزءاً من نبض الحياة اليومية. في الجنوب اللبناني تُرفع الآن العيون إلى السماء، في الحقول كما في الشوارع. وهكذا ترفع رأسك إلى السماء حين تقف عند قبر من تحب، تترحم على روحه، أو حتى عندما تكنس الأرض أو تشرب قهوتك الصباحية على الشرفة. أحيانا يكون صوت «أم كامل» الذي تسمعه من فوق يحثك على الإسراع في عملك لكي يواصل هو عمله؛ وأحيانا يناديك باسمك ليُعلِمك بأنه يعرف كل ما يلزم عنك. وعندما يخرس، قد يعني ذلك أنه على وشك أن يحولك إلى جثة.
في بيروت، بدأنا نرفع إصبعاً ـ ولو بطريقة خفية ـ باتجاه «أم كامل»، رفيقتنا الإسرائيلية الجديدة التي تطن فوق أفق مدينتنا. «أم كامل» لقب قديم لمتطفل قديم. ولا يعلم كثير من اللبنانيين أن الطائرات المسيَّرة الإسرائيلية رُصدت تحوم فوق الأراضي الجنوبية في وقت مبكر يعود إلى عام 1982. ويبدو أن نموذج الطائرة «تاديران ماستيف»، المعروف باسم «إم كاي»، كان مصدر الإلهام لهذا اللقب الظريف: «أم كامل». هذا مثال على الدعابة السوداء اللبنانية، كما ترى. في ذلك الحين، كانت «أم كامل» مجرد متطفلة؛ كان فضولها لا حدود له بعكس قدراتها المحدودة. أما اليوم، فصارت متنصتة قاتلة؛ لا تكتفي بترديد صدى رواية جورج أورويل «1984»، بل تكاد تذيّلها بحواشٍ جديدة.
تختتم الدولتان الإسرائيلية واللبنانية عام 2025 بالحوار، على وقع أصداء وإيقاعات هذه الطائرات المسيَّرة، وعلى وقع الصواعق الإسرائيلية، وصراخنا المتبادل. تصاعد في وتيرة النقاش تتخلَّله خطب أولئك الذين يمسكون بمفاتيح أموال يُفترض أن تنقذ بلدٌ يُشاع أنّه يحتفظ بنحو 18 مليار دولار نقداً ضمن اقتصادٍ شديد الهشاشة يبلغ حجمه 28 مليار دولار. النزاعات العلنية تكشف القليل مما يُتَّفق عليه خلف الأبواب المغلقة بين جميع الأطراف. كما أنّها لا تكشف شيئا عن مآزق الناس ومخاوفهم وهم ينتظرون المستقبل، على الرغم من اقتراب الأعياد.
أما المستقبل الذي يلوح في الأفق، ولو جزئيا، فليس لغزاً كاملا. أياً تكن مآلات المفاوضات، تبدو فرص العودة قاتمة أمام القرويين القاطنين على خط المواجهة والمطلّين على هذه الجهة من إسرائيل. ويصف أحد الزملاء تهجير ما يُقدَّر بنحو مئة ألف نسمة توصيفا دقيقا باعتباره شكلا من أشكال الترحيل الداخلي. وإذا ما ترسّخ هذا الواقع وأصبح دائما، فإن تداعياته الاجتماعية والسياسية ليست عصيّة على التخيّل، وسرعان ما ستغدو ملموسة. أكثرها قسوةً هو الجنوب العميق الذي يكاد يكون منطقة ميّتة.. ميّتة بالنسبة إلى لبنان.
لكنّه لن يكون يوما صالحا أبدا لحكومةٍ تدّعي الإصلاح، تواجه مثل هذه التحديات الوجودية، حين يقرّر من يتصدّرون دفة الحكم أنّ اللحظة أنسب لمقامرةٍ طائفيةٍ فجّة. لدينا اليوم معسكرٌ يتصرّف، بقدرٍ متهوّر من الابتهاج، وكأنّ حزب الله قد خسر كلّ شيء في هذه الحرب الأخيرة؛ ومعسكرٌ آخر، بقدرٍ مريب من البلادة، يتظاهر بأنّ حزب الله لم يخسر شيئا على الإطلاق. شماتةٌ واستعراضٌ أجوف، بقدرٍ متساوٍ. وهذا، في لبنان، أمرٌ مألوف، فمحاولات تغيير موازين القوى شكّلت السمة الغالبة لتاريخنا الحديث المضطرب، وغالبا ما جاءت عنيفة. هكذا هي الطبيعة المتوترة للصراع الطائفي بين من يملكون فائضا من السلطة ومن يشعرون بأنهم مُنتقَصون بفعلها. والتاريخ، بطبيعة الحال، ليس بالضرورة مقدّمة لما سيأتي، ولا كل حقبة تكرّر سابقتها. لكن نُخبنا الحاكمة مشهورة بتجاهل دروسه. وحين تلوح لها فرصة الابتكار، تنهض أسوأ غرائزها لتلبّي الدعوة. لعلّ الأمل، إذن، أن ينتصر شيء من الرصانة، وأن يحرمهم عام 2026 جميعا من فرصة جديدة للفشل.

كاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد