خارج نطاق التغطية

خارج نطاق التغطية

19-12-2025 02:33 AM

شعور بالغربة والاحتراق يغزو روحي، لا أدري إن كان ذلك بسبب تقدمي في العمر المواكب لسرعة هائلة في التطور والتغيير، أم بسبب الأحداث المعاصرة الفادحة المواكبة لانقلابات رهيبة على كل ما تمسكت به من مفاهيم حقوقية وكل ما آمنت به من مفاهيم ديموقراطية وكل ما عملت به من مفاهيم أخلاقية ومنطقية. كل ما أعرفه أنني أشعر أنني خارج نطاق التغطية، بلا انتماء لفكرة أو مجموعة، تماماً كما أعرف أن هذا الشعور بالغربة فيه شيء من التعالي وأنانية الشعور بالتفرد، وكأن شعوري موضوع يستحق مقال. هي أنانيتنا البشرية التي تجعلنا نشعر أن تجاربنا محورية للكون، في حين أنها لا تعدو كونها أحداثاً سخيفة، بلا معنى، أحداثاً غير مؤثرة مطلقاً في كوننا الرهيب الذي لربما هو بحد ذاته بكل عظمته واتساعه اللانهائي، مجرد نقطة صغيرة في بحر أكوان لا متناهية. أين هو شعوري الشخصي إذن من كل هذا الاتساع اللامتناهي؟
وفي حين أنني أستوعب تماماً سخافة وضع تجاربنا ومشاعرنا في مركز الحدث، فإن ما أشعر به أنا لربما هو ذاته شعور جيلين كاملين، جيلين معلقين بين ماض قريب ومستقبل متهافت يعدو صوبنا بسرعة ضوئية غير مسبوقة في تاريخ البشرية. قبل أيام، انتهيت من تصحيح أوراق امتحانات أحد صفوفي الجامعية، فرشت الأوراق أمامي وتأملت فيها مديداً وأنا أتنهد بشوق لماض ليس ببعيد، ماض كان الطلبة فيه يحاولون ويخطئون، لنصحح نحن كمعلمين الأخطاء، ونشحذ المهارات ونشذب أطراف القدرات الكتابية والتحليلية والكلامية. أشتاق لزمن «طبيعي»، الطلبة فيه لا يبدون وكأنهم روبوتات مبرمجة محشوة بمعلومات تذرفها بإتقان ميكانيكي يخلو من الروح، ولا يبدون كذلك، في تضاد تام مع هذا الكمال. ويبدون في حال حُرموا التكنولوجيا الذكية الحالية، بشراً بدائيين غير قادرين على القراءة والكتابة والتحليل وكأن لديهم إعاقات عميقة كتابية ولغوية تجعلهم عاجزين عن الإنتاج والتعبير. حقيقة، يبدو الوضع اليوم قطبي التطرف، حيث يستعين الطلبة ويعتمدون بشكل مطلق على الذكاء الاصطناعي، ما يجعلهم ينتجون مواد مثالية ميكانيكية لا تشبه أعمارهم أو قدراتهم الحقيقية في شيء، أو حين يضطرون تحت الضغط والمراقبة إلى إنتاج عملهم بأنفسهم، ليتجلى ضعف مخيف في القدرات والمهارات، وليأتي الناتج هزيلاً بشكل يثير مخاوف عميقة ومستحقة.
في جلسة صديقات عمل منذ أيام، زادتها عليّ إحداهن حين قالت: اليوم أخبرت طلبتي أنني أريد أن أرى أوراقاً «طبيعية»، فيها أخطاء بسيطة وسخيفة، فيها كلمات يكتبها بشر ليسوا بكاملين تامين، إنما بشر يخطئون ويصيبون ويتعلمون من العملية كلها. تأملت في كلماتها وقلبي يذوب حنيناً لزمن الأخطاء البشرية والأوراق المليئة بالخطوط الحمراء والفرح العارم حين التعثر بورقة مختلفة لطالبة أو طالب مختلفين، ورقة تبشر بإبداع قادم ومستقبل أجمل. ولأن الذكاء الاصطناعي ليس بكينونة حقيقية، فإن فكرة «السرقة الأدبية» من الذكاء الاصطناعي غير مستقرة مطلقاً في أذهان الشباب والشابات، والمعضلة الأخلاقية لهذا الفعل غير ظاهرة على الإطلاق، فبالنسبة لهم، الذكاء الاصطناعي هو مجرد مصدر، وهو مصدر غير بشري، ولذلك فإن لهم الحق في الاعتماد عليه والنهل منه دون أي إشارة لاستعانة كهذه، ودون أي شعور بتأنيب ضمير. ولأن أدوات الذكاء هذه موجودة بشكل شخصي وخاص على هاتف كل واحد وواحدة من هؤلاء الشباب والشابات، فهو يتبدى لهم مساعداً شخصياً، من حقهم الاستعانة به والاعتماد عليه والركون له دون أن تتشكل أي معضلة أخلاقية أو توجس روحي وعقلي في أذهانهم حول الموضوع.
هذا، والمسألة لا تقف حد المعضلة الأخلاقية، ولا حتى حد القلق على أرواح وعقول البشر، إنما تمتد المعضلة إلى نتاج هكذا اعتماد تام على التكنولوجيا الحالية، تلك التي تقرأ وتكتب وتلخص وتفكر وتعبر للطلبة، لتأخذ دورنا كمعلمين ودورهم كطلبة، فهي تشرح وتفهّم وتبسط المادة في انتحال تام لشخوصنا كمعلمين وهي تقرأ وتكتب وتؤدي الواجبات، وتفكر وتحلل في إحلال تام لشخوص الطلبة. التكنولوجيا الحالية تفعل كل شيء، تحل محل المعلم، وتحل محل الطالب لتخليهم من أدوارهم الإنسانية التي تستطيع هي أن تلعبها بميكانيكية متقنة ومثالية.
المصيبة المستقبلية القريبة ستتجلى في بشر الأجيال القادمة الذين سيكونون غير قادرين لا على القراءة ولا على الكتابة ولا على التحليل المنطقي ولا على التفكير العقلاني ولا على صنع قرار ولا حتى على اختيار خَيار، المصيبة ستتحقق في استسلامنا التام لتكنولوجيا ستحل محل عقولنا، أثمن ما نملك، لنسلمها لها ونجلس مشدوهين تحت تأثير فيديوهات قصيرة متسارعة وأصوات وأضواء تستعبدنا وتنومنا مغناطيسياً نحركها بأطراف أصابعنا كالمجاذيب المغيبين تحت تأثير جلسات عصبية مرئية ومسموعة تستحوذ على كل وعينا وقدراتنا العقلية.
اللهم إني أدعوك أن يكون ما أمر به هو مجرد انفصال شخص يتقدم في العمر عن حاضر متقدم متسارع ليس له فيه مكان، وليس رؤية حقيقية تنبؤية لديستوبيا قادمة. اللهم إني أدعوك أن تخفف عني الشغف، شغفي التعليمي والبحثي والتحليلي، والشجن، شجني وشوقي إلى زمن كنا فيه كمعلمين ذوي تأثير، ذوي علاقة حقيقية ومؤثرة بالحياة والنشء. اللهم إني أدعوك أن تخفف عني وعن جيلي هذه المرحلة الانتقالية المؤلمة، وأن تخففنا من إرادتنا في المقاومة انضماماً للركب واستسلاماً لأفيون العقل المعاصر. أريد أن أخرج من موقفي هذا وأن ألعب، ولو مرة في حياتي، مع الفريق الرابح ولو كان فاسداً مغيباً، أريد أن أرتاح ولو غشاً وخيانة. هكذا زمن يتطلب هكذا أمل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد