في مواجهة صمت البيوت

mainThumb

17-10-2022 08:32 AM

ترى إلى أي مدى يمكننا أن نصدق حقيقة تاريخية متعلقة بالنساء؟ طرحت السؤال على نفسي حين قرأت بعض التعليقات على مقالي «العالم يتأنث». والصراحة تقال موضوع تصديق حقائق عن النساء يبدو صعبا على المجتمعات الذكورية، التي لم ترتق بعد لفهم المرأة وطريقة تفكيرها ومواجهتها للأزمات. وهذا ربما عائد إلى تقسيم جغرافيا الحياة بشكل خالف الطبيعة المبنية على التحام الذكورة والأنوثة واشتراكها في إنتاج دورتها.
يعبر الرجل عن آلامه بطريقة مبالغ فيها في نظري، ويحظى دائما بالاهتمام لأن المرأة تصدق آلامه ومعاناته، فيما يعتقد الرجل في الغالب أن آلام المرأة أقل دائما من آلامه، ويحدث ألا يصدقها بالمرة، حتى في حالات جد حساسة مثل الولادة. تنهض المرأة بآلامها وتقوم بواجباتها كاملة، من إرضاع – حتى إن كانت عملية الإرضاع موجعة جدا – واهتمام بكل أفراد عائلتها، وإنجاز أعمال البيت. وفي الحقيقة في السجل الذكوري كل هذه الأعمال غير محسوبة، بل تصنف ضمن أشكال البطالة التي يعاني منها أشخاص يبحثون عن عمل. فكل ربة بيت تعتبر امرأة عاطلة عن العمل، حتى إن كانت أعباءها تفوق أعباء موظفة تعمل وفق دوام يومي لمدة ست ساعات خلال خمسة أيام في الأسبوع. تفقد المرأة نفسها في بلادة التكرار اليومي الخاوي من الاهتمام، وهذا بالضبط ما حرمها من وضع تاريخي واضح ومحترم.

إذ تشير العديد من العلامات أن النساء يقمن بدورهن وهن صامتات، دون طرح أسئلة جادة حول أدوارهن، وطبيعة قوتهن، ومصائرهن، في مختلف مراحل تطور المجتمعات. فاتهن دائما أن يسألن بشجاعة «هل للمرأة تاريخ؟».
لقد قُمِع الموضوع الأنثوي لأسباب عديدة منها أن مهنة المؤرخ هي مهنة الرجال الذين كتبوا التاريخ بالمذكر، وقد تناولوا مجالات عمل شغلها الذكور، نذكر على الخصوص هنا رجال السلطة وما أحدثوه من تغيرات في العالم بحروبهم ومكاسبهم وخسائرهم. وفي المقابل نجد نوعية من النساء غذّت سجلات هذا التاريخ، من المسْبيات، والعشيقات، والجواري، اللائي تحول بعضهن إلى ملكات بحكم المكانة الممنوحة لهن من أصحاب السلطة والقرار.
على ذلك الهامش غير المشرف في الغالب، نقرأ الكثير عن نساء لا منجز حقيقي لهن، كون المؤرخين يحاولون دوما تفادي ذكره في المحفوظات الرسمية والإدارية والوثائق البرلمانية والسير الذاتية، مع ملاحظة أن الكتابة عمل يحتكره الرجال أيضا، وأن الطبقات الكادحة لا تعني هؤلاء الكتبة، فقد كانت بمثابة «الجندي المجهول» الذي يسلم راية النصر لقادته بعد انتهاء الحروب، لكن إقصاء الإناث أقوى بكثير وربما حتى هذه اللحظة.
تعيدنا دوروثي طومسون أول صحافية أمريكية إلى ظاهرة اختفاء النساء تدريجيا من أماكن معينة، كانت لصيقة بالنضالات الشعبية، والحركات العمالية، بسبب تيارات أخلاقية اعتبرت وجود النساء فيها، فيه مساس بالحياء العام، كان ذلك غريبا أمام وجود «رجال شرفاء» في المواخير مثلا دون أي اعتراض، بل إن وجود بائعات الهوى بشكل منظم ومرخص كان لا يعارض الاعتبارات السالفة الذكر! لقد أدرك بعض النساء القليلات اللواتي حظين بتعليم وتربية مختلفة عن تلك التي تجهزهن للزواج والإنجاب، أن نسيان ماضيهن الجماعي هو شكل من أشكال فقدان الهوية، وأن تدوين تاريخ المرأة طريقة تعويض معنوي لهن، بل أبعد من ذلك لأنها إعادة اكتشاف لوجودهن. وهكذا ولدت حركة بناء للحاضر من خلال قراءة جادة لماضي النساء المرير، ذلك الماضي الذي سخر فيه الذكور من أوجاعهن وتعبهن وتضحياتهن، وكان الاستمرار في العيش بالقبول نفسه، والتنازلات نفسها، ضربا من الاستهتار بكياناتهن ومصائرهن المستقلة.
ستظهر إذن الأرقام الأولى لإناث سجلن فرادتهن باقتحام عوالم اعتبرها الرجال خاصة بهم، مع إبعاد مقصود لكل امرأة تسول لها نفسها المشاركة فيها، إذ على مدى حقب زمنية طويلة، تم تجريد المرأة من جسدها. فأصبح مخفيا، محبوسا، ومزخرفا، وغامضا ومجهولا في الآن نفسه بالنسبة للرجل، لكن من باب التحكم فيه مارس سلطة امتلاكه مع إنكار كامل لمشاعرها وغرائزها الشبيهة بغرائزه، مثل الإنكار الكامل لشعورها بالمتعة الجنسية.
في بداية القرن التاسع عشر، تم توظيف النساء بأعداد هائلة تحت الأرض لنقل الفحم في سلال من الخيزران في أوروبا، ظروف العمل كانت أسوأ من أن يتخيلها المرء والعاملات اللواتي كان عددهن بمئات الآلاف تبدأ أعمارهن من الثانية عشرة، وقد خلد إميل زولا سيد الطبعانيين هؤلاء النساء في روايته «جرمينال» من خلال شخصية كاثرين ميهو، كانت الأسر التي لا رجل معيل لها أمام خيارين، إما أن تعمل نساؤها في مناجم الفحم مستسلمات لأقسى ظروف استغلالهن، أو العمل في الدعارة! ذهبت قوافل من النساء مع أطفالهن للخيار الأول، ومع هذا لاحقتهن التحرشات، والتنمر، وأشياء أخرى. تحكي السيدة ماري ديبلدر عن تجربتها في مجال البناء وصقل الحجارة لمدة ثلاثين سنة، أنها لا تزال تسمع عبارة «مكان المرأة البيت» وأنها أخذت مكان رجل يحتاج لعمل، وهذا أمر غريب بالنسبة لها، فهي تتقن عملها، متنقلة بين ورشات عديدة في بلجيكا وفرنسا وإيطاليا، من أجل لقمة العيش، لكن اختيارها لهذه المهنة كان نابعا من رغبة انبعثت من أعماقها، أما عن القدرة الجسدية لممارسة هذه المهنة الصعبة، تقول إنها تلقت مثل زملائها الرجال كل التعليمات اللازمة للقيام بهذا العمل بشكل صحيح، للوقاية من التعرض لأوجاع الظهر والركب، ثم تضيف «للنساء قدرة أكثر على التحمل لا يملكها الرجال». ومع هذا يحتكر الرجال لقب «البناء» كما يحتكر ألقابا كثيرة، بقيت محجوزة له، وظل مصرا على أن العبقرية أيضا حكر عليه، إلى أن كسرت نساء تلك القاعدة.
في أواخر القرن التاسع عشر أصيب المهندس واشنطن ويبيلينغ كبير المهندسين لبناء جسر بروكلين بالشلل بسبب حادث عمل، فتولت زوجته إيميلي وارن ويبيلينغ (1843 – 1903) تولت الإشراف على موقع البناء، على الرغم من أنها في الأصل محامية، لكنها اضطرت لتعلم مهنة زوجها، فكانت أول امرأة تعمل مهندسة على الميدان، وقامت بالمهمة ببراعة والدليل أن جسر بروكلين لا يزال في مكانه إلى اليوم. سنة 1918 تخرجت الأمريكية إيديث كلارك من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كأول مهندسة كهربائية، تلتها ليليان مولر جيلبرت، التي كانت أما لاثني عشر طفلا، وقد روت سيرتها الذاتية في كتاب، واقتبست قصتها للسينما مرتين، الأولى عام 1950، والثانية عام 2003.
تركت نساء مهندسات بصماتهن في عالم العمارة مثل العراقية زها حديد ذات الشهرة الواسعة، وتزاحمت الإناث في الجامعات للتخصص في الهندسة وعلوم أخرى كانت حكرا على الذكور. لكن في السنوات الأخيرة أصبنا بحمى التسابق بنسائنا وإبرازهن خاصة الأوائل منهن في ميادين كانت حكرا على الرجال، فأصبحت الدول العربية تبرِزُ نساءها المتفوقات، هكذا اكتشفتُ مثلا أن أول قائدة طائرة عربية هي ثريا شاوي من المغرب، التي تخرجت كقائدة طائرة عام 1951، ومن المؤسف أنها اغتيلت صبيحة الفاتح من شهر مارس/آذار عام 1956 دون أن يعرف الدافع لقتلها الذي رُجح أنه دافع عاطفي من رجل لم يستطع الحصول على قلبها، وفي هذا دلالات مهمة على رفض المجتمع للنموذج، الذي مثلته ثريا آنذاك كامرأة مثقفة ومناضلة وقائدة طائرة. لقد فاق هذا الأمر القدرة الاستيعابية لذكور مجتمع لا يزال يعتبر المرأة سعيدة الحظ هي تلك التي تحظى بزوج يأخذها إلى بيته.
إن محاولات إعادة المرأة إلى «صمت البيوت» لم يتوقف أبدا منذ بداية عصر النهضة، ويستمر حتى بعد خروجها للعمل، إذ توجه للمهام الأقل أجرا، أو تلك التي تكتفي فيها بنيل بعض الشكر، دون أي مكانة تذكر، لكن قدرتها على الصبر والتحمل قد تكون سلاحها الخفي لتغيير واقع طال.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد