الرواية

mainThumb

23-10-2022 12:34 PM

تعريف الرواية الجيدة ليس سهلا ، فمن الصعب تحديد الرواية الجيدة وما نجنيه منها .قد يقال إن الرواية الجيدة ليست الا" : شيء من النثر يصف شخصيات ،كليا او جزئيا، من نتاج خيال الكاتب" - وهو تعريف يشمل كماً هائلا من الروايات التجارية .
لكن التعميم صعب، إن لم يكن مستحيل، لأن مجال الروايات الجيدة بحد ذاته واسع جدا لا يستوعبه التعريف. وقد بذلت محاولات كثيرة لتعريف الرواية الجيدة، لكن من السهل البرهنة أنها جميعا غير قاطعة مانعة بالإشارة الى الروايات التي لا شك في انها روايات رائعة لا تشملها تلك التعاريف .وهذا جعل ناقدا يقول :" الرواية الجيدة هي ذلك النوع من الروايات التي تكتبها _ جين اوستن- لكن هذا التعريف مستفز لا يحل المشكلة .فإن عجز المرء عن تعريف الرواية فبوسعه ان يعطي أمثلة كأن يقول ببساطة إن رواية "إيما" - لجين اوستن ورواية "آمال عريضة _ لتشالز ديكنز ، ورواية -نوسترومو- او ميدلمارش لجورج اورويل أو رواية ديفيد هيربرت لورانس – أبناء وعشاق _ هي روايات جيدة . ومن الواضح أنه من الصعب الحديث حول الروايات او الكتابة عنها بأسلوب متماسك. والملاحظ هو غياب نقد من الدرجة الأولى للرواية ! وأحد الاساليب الناجعة لنقد الرواية هو ان نرى ما يقوله الروائيون انفسهم حول الرواية فمثلا ديفيد هيربرت لورانس في أعماله الأدبية و النقدية ، مع انه مستفز، لديه إضاءات مفيدة جدا على الرواية! و يلقي كثيرا من الضوء على ممارسته في تأليف الرواية. و يورد هنري فيلدنغ في مستهل كل باب من روايته التاريخية -توم جونز- تعليقات تثير الاهتمام حول مبادئه روائيا. لكن مثل هذه المصادر نادرة وهناك كثير من كبار الرواة عجزوا تماما عن كتابة متماسكة تتناول رواياتهم !
وكثير من المشكلات متأصلة في الشكل الذي يتعلق جزئيا بحجم العمل الأدبي : فمثلا مسرحية هاملت أطول مسرحيات شكسبير تقل عن أربعة الالاف سطر؛ ورواية _مرتفعات ويذرنغ _ تبلغ 12 الف سطر في الطباعة العادية . ومن الصعب تصور حجم الرواية عدا كونه ذوقا ذهنيا!
وهناك محاولات لتناول هذه المشكلة وذلك باستخلاص عناصر من الرواية كالتركيب والشخصية. وهناك اعمال مهمة حول الشكل لعدد من الروايات الهامة . وهذه الفكرة قد تكون ذات قيمة لكن في كثير من الأحيان التركيزُ على الشكل يجعل المرءَ يُقَدِّم الشكلَ على موضوع الرواية ، وهكذا تتولد السخافات. وتبدو دراسة شخصيات الرواية طبيعية اكثر بل في الحقيقة هي الطريقة التي يلجا اليها معظم القراء لإصدار احكامهم على ما يقرأون.، لكن الرواية الجيدة اكبر بكثير من مجموع شخصياتها، وتحليل الشخصيات في بعض الروايات قد يكون مُقَيَدَاً إن لم يكن عقيما! وتذوي الشخصيات عند انتزاعها من عنصرها الطبيعي-أي تركيب الرواية. ويحكى ان احد النقاد قال: توجد شخصيات الرواية في المحلول لكن يمكن دراستها و تحليلها عند تحويل المحلول الى قطرات منفصلة عن بعضها !

وبوسع المرء ان يقرأ الروايات كصور لأزمان متعددة مضت مستحضرا الأوضاع والمواقف والناس ومشكلات زمان ماض محدد ، وقد يكون هذا منهجا عالي القيمة لكنه لا يحل المشكلة بل قد يحيل نموذجا حيا الى عيّنة اثرية .
وهذا يقودنا الى استنتاج ان الروايات توجد فقط في سياق لُغَاتِها الفعلي: المعيار النهائي لجودة الرواية، كأي ضرب من النثر بغض النظر عن عدد المفردات في الصفحة . وان تذكرنا هذه الفكرة عند نقد الرواية فإننا لن نصدر تعميمات فضفاضة – الحفرة التي يقع فيها من يحاول الحديث حول الروايات,
لكن لا بد من محاولة صياغة عدد قليل من التعميمات وإلا فإن القارئ قد يجد نفسه في حيرة تامة . ومعظم الروايات تدور حول الناس . ونحن نقرأ الروايات طلبا لمعرفة المزيد عن الناس ،والكاتب الجيد هو الذي يقدم لنا مفاهيم الناس او طبقة منهم في مكان ما في مرحلة ما – مفاهيمهم لعلاقاتهم وطموحاتهم وامالهم ومخاوفهم , وهذا مهم لنا لأننا نحب أن نعرف عن الا خرين بالقراءة عنهم والقراءة تلك تلقي الضوء على انفسنا نحن : فنحن أيضا بشر مثلهم فلدينا خصائص محددة مشتركة مع كل الناس – وهي مشتركة بشكل أكبر مع الناس الذين تم تصويرهم في روايات انتجت حديثا. و التأثير المترسب في اذهاننا من رواية عظيمة معينة هو ذاك التأثير الذي قد يجعلنا نغيّر، إلى حد ما ، تصورنا لأنفسنا ومحيطنا.
والعبارة المفيدة هنا هي " تهذيب انفعالاتنا وعواطفنا " مرتبطة بموضوع الرواية. فالأدب المفيد تحديدا الرواية العظيمة، لأنها تبين تصرفات الأشخاص ، وتهذب عواطفنا وتتركنا الى حد ما ، نتغير بتجربة قراءتها فالقراءة قد تكون مضيعة للوقت ان لم تحقق الأهداف المنشودة منها فقراءة الرواية قد تكون لاستيعاب العبر من تجارب الاخرين!
ونحتاج هنا الى الخروج مرتين عن الموضوع
الخروج الأول: يتعلق بالمُعَاصَرة: فإذا كان التأثير في شخصياتنا والفهم هو المهم، أفلا يقتضي ذلك ان تكون الرواية المعاصرة هي الأكثر قيمة إذ انها تعكس المشكلات والشخصيات المعاصرة في محيط حديث؟ ويمكن ان يكون الحال هكذا اذا مِزْنا الروايات الجيدة من الروايات الرديئة! في الحقيقة لابد من قراءة الروايات المعاصرة! فمن المؤكد انه قد أُلّفت روايات جديدة خلال العقد الماضي لا ندري عنها شيئا لأن تصنيفها عملية صعبة طويلة. وفوق ذلك فإن كلمة المعاصرة تدل على وقت قصير مقارنة بمائتي سنة مضت جرت فيها عملية التصنيف او تم انجازها. واي مساق قراءة معاصر لا يحتوي على نماذج أدبية انتجت في فترات سابقة ليست بعيدة فانه مساق هابط ,فالتقييم المستمر لأعمال انتجت في الزمن الماضي ضروري وأساسي.
ويجب أن لا تُعَدْ آراء ابرز النقاد، بغض النظر عن مكانتهم، على انها مُسَلّمات. ووسيلة التقييم الوحيدة هي القراءة. لكن، لا ريب، من المُجْدِي ان يكون هناك نوع من التوجيه الإرشادي لا الإملائي. فالكتاب الكلاسيكي ، من اكثر العبارات التي أسيء استعمالها، فكلمة كلاسيكي تدل احيانا على كتاب صمد لاختبار الزمن، لكن بغض النظر عن حجم صورة الزمن الماضي التي يقدمها الكتاب الكلاسيكي فان الكتاب قد عاش عبر الزمن لأنه لا يقدم صورة الماضي بل له قيمة لأنه ليس مقيدا بمحيطه فقيمته نابعة من تناوله الدائم المتعلق بالناس ولذلك فهو يتعلق بنا ويهمنا بقدر أهميته لمعاصريه! أما الروايات الوقتية المتماشية مع موضة العصر فإنها تموت بانقضاء الزمن الذي تناولته – أي يختفي باختفاء عصره! اما الرواية التي تدوم فهي تلك الرواية التي تتناول أمورا متعلقة بحياة الناس فالرواية التي تركز على اخر مستجدات عصرها فلا ضمان لاستمراريتها عبر العصور التي تليها! أما الرواية التي تدور حول الناس ومشكلاتهم فتبقى مهمة للأجيال التي تليهم !
والخروج الثاني عن الموضوع هو الحديث حول الرواية التاريخية، وهذه الرواية تتناول فترة زمنية غير زمن مؤلفها. وعلى العموم- رغم وجود استثناءات بارزة قليلة، فشكل الرواية يجذب اهتمام النقاد. ومما يميز الروائيين المبدعين هو رغبتهم في تناول شؤون حياتهم وتغيُر الاحداث التي يعيشونها.
وقد تتملص الكتابة حول الماضي في هذا القرن من الكاتب الذي يكتب عن القرن الرابع عشر الميلادي ، على سبيل المثال .وقد الف -غريفز- بعض روايات تاريخية ممتعة يسودها في الغالب "احاسيس" معاصرة لكن خير اعماله لغاية الان ،كما أرى، هو شعره بطابع معاصر في الإحساس والمحتوى. ومثال آخر هو الأبحاث الضخمة التي قامت بها الكاتبة الرائعة جورج إليوت حسب اسمها القلمي . فقد قامت بابحاث ضخمة في روايتها الوحيدة المتعلقة بالتاريخ - رومولا_ٍكما اتفق معظم النقاد على أنها فشل ذريع في كل شيء الا الحياة .ولن تجد بين عشر روايات عظمية رواية وحيدة غير معاصرة في احساس و بيئة كاتبها . واستخدام اللغة المعاصرة حيوي للكاتب وشرط لازم للرواية العظيمة .
فالرواية ،اذن ، تقدم لنا انماطا من الوجود تختلف عن نمط وجودنا - انماط ازمان أخرى وطبقات أخرى و احوال اخرى . ويجب عدم التقليل من الأهمية الإعلامية و الإبداعية للرواية. فدورها الرئيس هو توسيع ممارساتنا الإبداعية وتعميقها . وكلما كان حجم الرواية اكبر كانت الكتابة حولها اكثر صعوبة. فالعمل الأدبي الكامل هو رِدَاء متماسك في قطعة واحدة خالية من خيوط الدرز واللصق. وهذا يبدو جليا عند فحص نُسَخ مختصرة من روايات كبيرة الحجم التي تطبع كثيرا. وربما من غير الضروري مهاجمة النسخ المنتزعة من الروايات الكلاسيكية فعدم كفايتها السخيف ييّن عظم الرواية فكلاسيكيتها تكمن حصريا في القصة! وبعض المختصرات الخاصة بالمدارس ناجحة نسبيا ، لكن كلما كانت الرواية افضل كان من الصعب عموما اختصارها.
واسوأ اجراء لاختصار الرواية هو قصقصة جمل وعبارات وتقديم ما تبقى من الرواية بزعم أن " كل مفردة في الرواية هي لتشالز ديكنز" هذه الجملة صحيحة في الحقيقة كاذبة في التضمين، لأن جودة الرواية تكمن في وحدتها التي تتراوح من وحدة الرواية كلها الى وحدة الفصل والفقرة والجملة – ووحدة هذه العناصر جميعا في الرواية الجيدة فعليا شيء ضروري .فإن تقرا الرواية من اجل القصة فيها فتأثيرها عليك هو حصيلة المجموع الكلي لتلك العناصر المتوافرة فيها.
والنُسَخ المختصرة من الروايات لا تظهر الشخصيات طالما قُدِمَت مختصرات لنص الرواية الحقيقي . فالنص الفعلي المفصل تفصيلا دقيقاً للأحداث والأشخاص والرموز هو ما يميز الكاتب المبدع عن الاخرين!


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد