فتح قبور اللغات الميتة

mainThumb

24-10-2022 12:31 PM

ماتت خمس لغات هي اللاتينية واليونانية القديمة والفرعونية والسومرية والفينيقية. وهي لغات ميتة في المفهوم العام، وإن كانت علميا غير ميتة تماما. فكل لغة تتعرّض لظروف تجعلها تخبو وتغادر الألسن، بما في ذلك ألسن أهلها الأصليين. فتزحف لغات أخرى عليها في غارات ثقافية هي جزء من أقدار اللغة أيضا، بميكانيزمات غير مفهومة تتمكن بها من قتل الكائنات اللغوية الحية واستبدالها بكائنات جديدة.
فتولد كلمات جديدة، ويحتل بعض الدخيل مساحات كانت محصّنة بلغة قديمة، فإذا بالأشكال اللغوية تتغير تماما عمّا ألفه السابقون.
في القرن العاشر قبل الميلاد نشأت اللاتينية القديمة، دون أي تأكيد لذلك، فأول أثر لنص قديم كتب باللاتينية يعود للقرن السابع قبل الميلاد، لكن رغم كل هذا القدم هناك مدارس تعمل على تأهيل اللغات الميتة، وتشجع على أهمية تعلُّمها.
للغة اليونانية القديمة مثلا كل الفضل لأنها تركت أدبا وفيرا وكنوزا علمية في الفلسفة والرياضيات والطب واللاهوت. وهي اللغة التي صنعت وأرّخت لنهضة بلاد شرق البحر الأبيض المتوسط. أمّا أقدم لغة ميتة فهي السومرية، لأنها أقدم لغة مكتوبة تمّ اكتشافها حتى الآن، في بلاد ما بين النهرين، لكن الباحثين رغم اجتهادهم لم يصلوا لحقائق نهائية بشأن موت نهائي لأي لغة، فكل لغة ولودة، كون فكرة عقم اللغة فكرة تخالف منطق العقل. توالدت اللغات من لسان الإنسان القديم، إنسان لا نعرفه، مهما حاولت مخيلة الإنسان المعاصر رسم ملامحه، واستقراء طريقة حياته، من خلال ما يعثر عليه من حفريات. لقد كانت أول صرخة حياة يطلقها هذا الكائن البشري رسالة تحمل الكثير عنه، وسواء أطلق الصرخة في وجه الوحوش الأسطورية، أو في وجوه أشباهه، تبقى تلك الصرخة هي لبنة كل لغاته للتواصل مع محيطه، وأبناء جلدته.
ابتكار اللغة المحفورة على الصخور والكهوف والألواح في ما بعد تبدو دليلا على تطور دماغه، والآن بمجرّد أن نلقي نظرة على ذلك الماضي السحيق مقارنة مع حاضرنا، نستطيع أن نفهم أن اللغة كائن ولد مع الحياة البشرية وتطوّر على مدى ملايين السنين، وما وصلنا نسخ عن تلك الصرخة الأولى، التي انطلقت في فضاء خام.
حول هذا الموضوع الخطير اليوم، تقول بعض الدراسات إن أكثر من نصف المتحدثين في العالم يجب أن يختفوا بحلول نهاية القرن، وهذه ظاهرة ليست جديدة، فقد لازمت اللغة منذ ظهورها، لكن الاهتمام باللغات الأصلية للشعوب أمر مستحدث، لم يتجاوز الثلاث سنوات، في بادرة مرتبطة بالحفاظ على الهويات والتراث العالمي، إذ يرى الباحثون وأصحاب الاختصاص أن الأدوات الرقمية اليوم تخدم اللغويين بشكل رهيب، إذ يمكن بسهولة تسجيل اللغات بالصورة والصوت، وأرشفتها والوصول إليها بسهولة عبر الإنترنت.
أكثر من سبعة آلاف لغة في طور الانقراض اليوم، منها ما يقارب الثلاثة آلاف تحتضر فعلا، ولن تعيش أكثر من سنوات قليلة قبل أن تختفي تماما مع كبار السن الذين يتحدثون ويكتبون بها بعد موتهم. منذ سنتين أنجزت الباحثة باربارة فينيو دراسة توصلت فيها إلى نتائج تخلص إلى أن افريقيا وآسيا قارتان تحتضران لغويا، فيما تقاوم أوروبا بصعوبة لتبقى على قيد الحياة ببعض لغاتها، هي القارة العجوز التي تحاول استخدام كل وسائل الحكمة للحفاظ على مكاسبها اللغوية. في فيلم «البروفيسور والمجنون» يعيدنا المخرج الإيراني فرهاد سافينيا إلى منتصف القرن التاسع عشر، حيث بدأ البروفيسور السّير جيمس موراي العمل على جمع كلمات اللغة الإنكليزية في قاموس أوكسفورد الشهير، ونجح في الحصول على عشرة آلاف كلمة من الدكتور وليام مينور المحبوس في مصحّة برودمور النفسية.
الفيلم اختصر المجهودات الجبّارة التي قام بها واحد من أهل اللغة الإنكليزية لتصبح اللغة الرقم واحد في العالم بعد قرن ونصف القرن، إذ كان ذلك المنجز العظيم تأسيسا لقاعدة متينة ستحفظ الإنكليزية من أعراض الموت، التي تهدد لغات أخرى رغم انتمائها لحضارات عظيمة.
طبعا ظهور القواميس يعود لحقب قديمة، إذ اكتشفت قواميس باللغة المسمارية، لكنها لم تصمد أمام الظروف التي أنهت حياتها، ولعلّ ما حظيت به اللغة الإنكليزية في قاموس أوكسفورد كان أهم ممّا حظيت به لغات أخرى، كون هذا الأخير جمع الكلمات وقام بحفظها، مع تجديد مستمر لحفظ أي كلمة جديدة تظهر بسبب تطور الألسنة. سنة 1991 أطلق الأمريكي مايكل كراوس جرس إنذاراً بأن خمسين في المئة من اللغات في العالم مهددة بالموت، وتحدث بإسهاب عن أسباب موتها، واضعا «التهجير السكاني» على رأس القائمة، فكلما غادرت مجموعات بشرية أراضيها الأصلية بحثا عن ظروف أفضل للحياة فقدت جزءا من تراثها اللغوي.
لنوضّح هنا أن التهجير يسارع في القضاء على لغات شفوية، لكنّه يسارع أيضا في انتشار لغات جديدة، ووفق هذا المبدأ تحتل افريقيا المرتبة الأولى في مطلع هذا القرن في احتضار لغاتها الأصلية، وتعلم مهاجريها ما يسمى بـ»اللغة الحية» ألا وهي الإنكليزية لأنها الجسر الوحيد نحو خلاصهم. وهذا يجعل أحادية اللغة تتقدم، كما يؤكّد اللغوي المختص في اللغات الافريقية نيكولاس كوينت في مقال مطوّل.
أما اللغوي ماكس وينريتش فيعجبني تعريفه للغة، وهو تعريف يوضح بطريقة سهلة جدا ما حدث للغات كثيرة فماتت وانقرضت بكل بساطة، يقول: «اللغة هي لهجة تقودها الجيوش» أي أنها الدولة والنظام الحاكم هو الذي يقوم بنشرها، على عكس اللهجة التي تعتبر لغة شفوية، يرتبط عمرها بعمر ناطقيها.
في منتصف القرن العشرين قامت بعض الأنظمة بإحياء لغات بهذه الطريقة، بعد إصدار قرارات بتدريسها في المدارس وتعميم استعمالها في المؤسسات وتشجيع الكتابة بها واستخدامها كأداة تعبيرية في عدة فنون كالشعر والغناء والمسرح، مثل إحياء اللغة الماورية في نيوزيلندا، والأمازيغية في دول الشمال الافريقي. ووفق توقعات وينريتش كلاهما سيعود للحياة بحلول عام 2045 بشكل واسع، إذا استمرّ احتضانهما من طرف الدولة. في دراسات حديثة نجدها عند عدد لا بأس به من اللغويين، خمس وعشرون لغة تموت سنويا، وهذا يهدّد كل تنوع ثقافي بالموت أيضا، فالتعدد لا يهدد اللغة بالموت، لكنه عامل مهم لإحيائها، وإنعاش الأوطان الحاضنة لها.
من هذا المنطلق نفهم اليوم أن الاهتمام باللغات المحتضرة، وفتح قبور اللغات الميتة ومحاولة بث الحياة فيها ليس بالظّاهرة السيئة المهدِّدة لوحدة الشعوب، بل على العكس فإن وحدانية اللسان علامة خطر داهم قد يصيب العصب الثقافي لأي مجتمع بالمرض قبل توعّكه وانتهائه شيئا فشيئا.
من الواضح أن الدراسة المبكّرة للغة لها تداعيات مهمة على مهارات المتحدثين. وكلما فُتِح أفق اللغة أمامهم انتعشت الذاكرة الجماعية، وازدادت النواقل الثقافية متانة، حاملة تراث الأجداد، والتقاليد الشفوية للمعرفة والمتمثلة في الغالب في الحرف اليدوية والفنية والأدبية، والكثير من الكنوز المرتبطة بالتقاليد الزراعية والطبية وغيرها. لا يمكن للغة أن تدخل هيكل القداسة وتسجن فيه بمعزل عن التأثيرات الخارجية، إنها كائن معقّد لا يمكن قتله بفرضيات غير عقلانية، ولعلّ هذا الأمر أصبح حقيقة معترف بها، لهذا نشهد في بداية هذا القرن ظاهرة فتح قبور اللغات الميتة وإنعاشها بطرق مختلفة، عسى أن تبعث فيها الحياة من جديد لإنقاذ مستقبل شعوب بأكملها، قادتها لغاتها المحتضرة إلى هاوية وشيكة على جميع الأصعدة.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد