اليمين الغموس

mainThumb

26-12-2022 01:10 PM

في صباح يوم ربيعي في أواخر شهر اذار من عام 1978 استيقظ أبو محمد من هجعة الكرى وقد قدت صمصامةُ الفجر درعَ الليل لكن سيطر عليه النعاس فقرران يبقى في الفراش بضعة دقائق وكاد ان يستغرق في النوم لولا ان صياح الديكة عانقت سماء الفجر وغردت العصافير في وكناتها وتعالى خوار البقر واصوات الناس الذين نهضوا وانطلقوا الى مزارعهم يسوقون دوابهم منهم من شغل الآلات الزراعية كالجرارات وتناغمت أصوات الدواب والطيور والبشر كلها في سمفونية تسبح رب الفلق ومما ازدهى نفس ابي محمد سماعه سقسقة العصافير في وكناتها وعندلة البلابل على اغصان الشجر فهب نشيطا من فراشه فتوضأ وصلى الفجر ثم تناول فنجال قهوة عربية وخرج الى مربط الدواب فوضع الجلال على حصانه بعد ان ساعده احد ابناءه بوضع عود الحراث الخشبي البدائي امامه على الحصان بشكل عرضي وانطلق نحو مكان عمله في مزرعة ابي قحطان !
كانت نسمات الفجر عليلة مثقلة بشيء من البرد لكنها كانت منعشة للحصان قبل ابى محمد وبعد ان اجتاز جسرا واتخذ طريقا نحو الحقول لحقت به شويحنة دودج فتقوفت والقى السائق الشاب التحيةعلى ابي محمد قائلا: " يا أبا محمد والدي يسلم عليك ويقول لك انه آسف على التأخير في دفع باقي ثمن الحصان الذي اشتراه منك وهذه مائة وثمانين دينارا القيمة المتبقية ويقول لك سامحنا على التأخير"
تناول ابو محمد الدنانير بسرور حامدا الله وشكر الشاب . وضع أبو محمد الدنانير في محفظة نقوده التي فيها عشرون دينارا فقط فأصبح فيها مائتي دينار!

وصل أبو محمد مزرعة ابي قحطان التي سيحرث فيها قطعة ارض زرعت فيها حديثافسائل النخيل

القى السلام على ابي قحطان لكن ابي قحطان تجاهل السلام وقد قطب حاجبيه دليلا على عدم رضاه ، فقال ابو محمد بصوت عال :" اسعد الله صباحك يا أبا قحطان!" قال أبو قحطان: " انا سمعتك ، لا تضيع الوقت ،هيا باشر عملك ألا يكفيك الوقت الذي تأخرت ، مفروض انك بدأت العمل قبل ساعتين ".
فقال أبو محمد "حاضر ، ان شاء الله سأنجز لك العمل هذا اليوم دون تأخير"!
ارتفعت الشمس ناشرة الدفء في ارجاء المعمورة ، كان المحراث يشق بسكته الأرض اللينة فتبدو تربتها السمراء مرحبة بالدفء باعثة عبقها الذي يشنف الانوف لا يستطيب عبقها الا من عشق تراب الأرض وتعفرت قدماه ويداه بترابها فيبقى اقرب الناس الى خالقه الذي شق له الارض شقا و صب فوقها الماء صبا فاهتزت بعد ان كانت هامدة وربت وانبتت من كل زوج بهيج حتى يبقى ذاكرا الله الحق وان الله يحي الموتى كما يحي الأرض بعد موتها وانه قادر على ان يبعث من في القبور وهو على كل شيء قدير فاخذ أبو محمد يردد الايةالكريمة( ومن آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
:
، كانت الأرض سهلة على المحراث واستمر أبو محمد حتى العاشرة صباحا ،فأوقف حصانه واضعا له عليقة علف واستراح .. جلس على الأرض المحروثة ليتناول طعام الإفطار الذي جلبه معه في الصباح .... اشعل أبو قحطان نار الحطب كي يحضر الشاي وضع ثلاث اثافي حول النار وركب ابريق الشاي عليها واخذ يمد النار بعيدان الحطب الجافة فتعالت السنتها الذهبية غامرة الابريق طاردة دخانا أبيضا و أحاطت السنة اللهب الابريق ازرق اللون وغمرته من كل الجهات ، وبعد ذلك غلى الماء وفار من الابريق فانهمر الماء على جمر النار والعيدان المشتعلة فتعالى دخان ابيض متكورا في دوائر الى الأعلى في خيوط تتعالى ممتطية نسمات عليلة !
عندما جلس أبو محمد على الأرض انزلقت المحفظة من جيبه الخلفي ساقطة على التربة دون ان يشعر أبو محمد بذلك.
شاهدت سمية ابنة ابي قحطان ذات الخمسة عشر ربيعا المحفظة فأسرعتوالتقطتها واخذتها بعيدا الى طرف البستان ودفنتها في التربة . اسـتأنف أبو محمد عمله وفي الثانية بعد الظهر انهىعمله .... قال لابي قحطان "أرأيت ها قد انهيت عملي في الوقت المحدد !"
ثم امتطى حصانه عائدا الى بيته.
هرعت سمية الى المكان الذي دفنت فيه المحفظة واخرجتها فشاهدها ابوها فسألها عن ذلك فأعطتهالمحفظة و فتحها فوجد فيها مائتي دينار فقال لها لا تخبري أحدا .وان فعلتفإني سأقص لسانك ! فقالت له الطفلة:"لواني اردت ان اخبر أحدا لفعلت قبل ان ادفن المحفظة في التراب ،لن اخبر أحدا خوفا على لساني من القص"
وفي طريق العودة إلى بيته شاهد أبو محمد دراجة هوائية امام دكان فتذكر انه قد وعد ابنه الصغير ان يحضر له دراجة هوائية ، فنزل عن الحصان وطلب من البائع ان يحضر له الدراجة . وعندما أراد دفع الثمن مد يده في جيبه الخلفي فلم يجد المحفظة في مكانها.ذعر أبو محمد ونظر الى البائع في حيرة وقال :"من فضلك احفظ لي هذا الدراجة ريثما احضر ثمنها فالظاهر اني قد فقدت المحفظة " فقال صاحب الدكان : " يا أبا محمد الدكان ومافيه على حسابك ، انت اطلب ولك ما يرضيك أنت منخير الناس واصدقهم"
قال أبو محمد :" ما عليك زود يا اخي ، فقط احفظ لي هذ الدراجة، وسأعود الان الى حيث كنت الى مزرعة ابي قحطان علني اجد المحفظة هناك!"

عاد أبو محمد على حصانه الذي كان يجري جري الخبب وٍسأل أبا قحطان إن كان قد وجد محفظته . أجاب أبو قحطان : "أنا لم ار شيئا قط فقال أبو محمد : "انا متأكد ان المحفظة قد سقطت مني هنا !"
غضب أبو قحطان فاقسم بالله العظيم ثلاثا انه لم ير المحفظة قط فقال أبو محمد :" انت اقسمت بالله العظيم وانا متأكد ان المحفظة قد سقطت في هذه المزرعة فلا تحسبن الله غافلا عما يفعل الظالمون، فقسمك هذا يمين غموس لتخفي حقي انا فوضت امري فيك لله فإن كنت قد وجدتها وانت بحاحة لما فيها فقل لي فانا سأقتسم ما فيها واياك لك النصف ولي النصف لأني بحاجة الى ما فيها من دنانير لشراء بعض اللوازم لأولادي !"
فقال ابو قحطان: "هيا انصرف من هنا وانا في غنى عنك وعن دنانيرك"!

عاد أبو محمد كسير الخاطر ...
وبعد ساعة امتطى أبو قحطان بغلا شموسا صعب القياد واتجه عائدا الى بيته وعندما اقترب من جسر فوق مجرى جدول ماء غزير كانت شويحنة تنحدر في الطريق الموصل الى الجسر وفي اللحظة التي كان يتجاوز فيها أبو قحطان الجسر اندفعت الشويحنة نحو الجسر بعد ان فقد سائقها السيطرة عليها فارتطمت بالبغل واطاحت بابي قحطان قاذفة إياه من على ظهر البغل الى دربزين الجسر الحديدي فارتطم راسه بعارضة الحديد فوق الجسر وتهشمت جمجمته وتكسرت يداه ورجلاه ونقل الى اقرب مشفى مسافة تزيد عن أربعين كيلو مترأفي شويحنة. ولما وصل المشفى كان في حالة يرثى لها اذ فقد كثيرا من الدماء وغاب عن الوعي.
وبعد أسبوع بدأ يستفيق من غيبوبته لكنه كان يهذي ويقول :" انا ما سرقت ماله، نحن وجدنا المحفظة في ارضنا ومن وجد شيئا في ارضه فهو ملك له... ثم يضحك... وكان يضحك قائلا ... فلان يلعن شيبه واحد مقرّن .هذا الدهن طامي على دماغه ... في مرات أخرى يؤذن مناديا" يا أيها الناس يا عجيان يا نساء السلطان عبد الحميد أعلن الجهاد فهبوا لتلبية النداء : وينا الخيل وين الخيل! يا خيل الله أركبي! الى الجهاد هبوا الى الجهاد اليوم يوم الملحمة ... يا لثارات عبس ! يا لثارات كليب وما يوم حليمة ببعيد!"
كان يمزق ملاية السرير البيضاء ويجدل قطعه منها على شكل مقلاع .... صارخا اين انت يا جالوت اليوم يومك 1 واحيانا يصيحزاهما حصانا ويصرخ على بلد المحبوب وديني ؟ ـتزوجت تا تنستر ساق الله أيام الفظيحة ...1
تم نقله الى غرفة منعزلة في المشفى بعيدا عن المرضى الاخرين !
وبعد مدة طويلة بدأ الهدوء يسيطر عليه وفي ضحى يوم حضر اليه أبو محمد زائرا وعندما جلس على كرسي بجانب سريره نظر اليه ابو قحطان قائلا :" مين : ام شحادة ؟: أتذكرين عندما لحقتك الى الطابون!.... قومي ... يلعن ابو نسلك ولا عمرك تجي الى هنا هيا انقلعي! يا أولاد اطلقوا الكلاب عليها "... اخذ يعوي كالكلب لم يتمالك أبو محمد نفسه فانفجر ضاحكا وغادر المكان سريعا بينما كان أبو قحطان يقلد الكلاب في نباحها.... حضر اليه الطبيب فقال له يا دكتور :"ارجوا ن لا تسمحوا لتلكالعجوزالتي زارتني اليوم ان تزورني مرة أخرى ابدا "... فقال الطبيب :"حاضر، كما تريد" ...
عقد الأطباء المشرفون على حالة ابي قحطان بحضور استشاري نفسي وقرروا نقله الى مصحة الامراض العقلية .





تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد