الطائرة تتحول لبيت عزاء نبيل

mainThumb

18-06-2023 07:12 PM

كان الوقت بين العصر والمغرب ، ومطار بورتسودان ضاجٍ بحركةٍ نشطة لم يعهدها.
وجوه السودانيين شاحبة تماماً ونظراتهم زائغة مشتتين لا تجمعهم إلا الفجيعة .

بورتسودان ربما تكون جميلة وأنيقة، ولكن في ذلك الوقت لاطعم ولا لون ولا رائحة لها
سوى الوجع المتراكم في صدور الناس.
اليوم 30 /5 /2023
وطائرة بدر للطيران آخر الطائرات المغادرة للسودان في ذلك الوقت، العاملون بالمطار على غير العادة نشطين مستعجلين ويأخذون مهماتهم بكفاءة عالية يبتسمون ابتسامة واسعة للمغادرين لتساعدهم لتجاوز الألم والحزن .
كل الإجراءات تمت على عجل وتسهيلٍ كريم من العاملين بالمطار
التفتيش -إجراءات الجوازات -المهام الأخرى بالمطار
كلهم يدفعون المغادرين دفعاً للوصول للطائرة
كانت لهذه الأريحية من العاملين بالمطار وقعاً جميلاً ومؤثراً على المغادرين ، حيث لا تحملهم أقدامهم للخروج القسري من بلادهم إلى فضاءات الدنيا المختلفة.
كنت على كرسي متحرك معدنٍي لا يتجاوز الخمس من النساء يجلسن ذات جلستي ،
ملامحهن في غاية الطيبة والبساطة ولكن يتميزن بصبر طافح وجَلَدٍ وجسارة
كنت أنظر لهن بحياء وأنا أداري خوفي من المجهول..
سريعاً وجدنا أنفسنا داخل الطائرة المكتظة جداً لا مِقعدَ فارغ كل المقاعد مشغولة تماماً
والجو خانق والأنفاس اللاهثة الساخنة تزيد من حرارة الجو لم أتذوق الطعام لوقت طويل وكذلك الشراب فقد صمت صياماً حازماً حتى استنفدت كل الطاقة المتبقية وواصلتُ في ذلك حتى لا استفرغ في الطائرة
لا أكل ولا ماء وهذه أفضل الخيارات، بين الحين والآخر أتطلع من ورائي رمشٍ متعب للغاية لنساء في الأربعينات والخمسينات من العمر وشباب ممتليء حيوية وقوة

الجو الساخن المليء بالرطوبة خارج الطائرة أجواء والأنفاس الساخنة التي تخرج من سبل الناس بغير إرادة أطبقت على الصدور .
تنفسنا الصعداء حين أعلن كابتن الطائرة عن اقلاعها أملاً في هواء جديد ومتجدد يغير حالة الاحتقان الكبيرة داخل الطائرة ، أذكر أن الكابتن اسمه محمد أحمد وقد بدأ بقراءة دعاء السفر للرسول صلى الله عليه وسلم وقد تلاه بلغة أقرب للأجنبي الذي تعلم اللغة العربية حديثاً ولذا ذكرت زوجتي أن الكابتن أجنبي من غير أن تنتبه لاسمه في بداية الإقلاع.
المهم أقلعت الطائرة من مطار بورتسودان إلى جدة التي هي قاب قوسين أو أدنى، فلم نكد نستوي في الفضاء حتى أعلنت الطائرة عن وصولها إلى مطار جدة الدولي
والعالم بين هذه المسافة القصيرة التي لاتزيد عن نصف ساعة مختلف جداً وقبل أن نهبط تماماً في مطار جدة تحدث كابتن الطائرة على غير العادة عن السودانيين وأحوالهم الصعبة والمرتبكة بلغة في غاية التأثير وتمنى أن يعود الناس لوطنهم وبيوتهم التي فارقوها ولم يكد ينتهي من حديثه هذا إلا والطائرة بأسرها انهمرت في بكاء عنيف
فصارت الطائرة مثل (بيت العزاء)
نحيب بصوت مرتفع ودعاءٌ حار بسلامة السودان، في هذا الوقت توحدت قلوب جميع السودانيين في الطائرة في وجهةٍ واحدة ومن حيث لايدري الكابتن قد أزال كتلةً هائلة من الغضب والحنين والشجن عبرت عنها الدموع الغزيرة التي انهمرت من المسافرين .

عندما هبطت الطائرة تماماً وتوقفت وانتشر مغادروها في أرجاء المطار الكبير فئة تبغي أبوظبي وأخرى قطر وعدد كبير منهم السعودية وفئة محدودة للقاهرة كل هؤلاء يتمتمون بالدعاء أن ينصر الله السودان وجيشه العظيم ويعيده إلى سيرته الأولى وأن يلحق اللعنات بالذي فعل فيهم ذلك وأخرجهم من ديارهم بغير حق ليصبحوا بين عشية وضحاها لاجئين يتوزعون في المدن التي لاترحم.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد