من الفحم إلى البيانات الرقمية

mainThumb

11-07-2023 08:53 AM

قولة: «مَن يملك البيانات يملك القوة» لتيم أوريلي مؤسس «أوريلي ميديا»، هي تفعيل لفكرة أن لكل عصر أدواته. في التاريخ الإنساني تنوعت أدوات القوة: خلال العصر الحجري، القوي هو مَن يستطيع أن يصنع من الحجارة وسائل دفاعية، أو أبنية، أو وسيلة لإشعال النار. الفحم كان قوة لتشغيل المحركات خاصة في النقل، ومَن يملك مناجم فحم يستطيع أن يتقدم خطوات في البناء الحضري ونقل البضائع والتجارة العابرة. ثم توالت الاختراعات والاكتشافات؛ الصلب، والبخار، وحتى الكهرباء، كلها أدوات تهدف إلى أمر واحد، وهو القدرة على الإنتاج، الذي يقدم بالنهاية الخدمات والسلع. تحدي العقل البشري المحموم مع البيئة دفعه للاستمرار في الابتكار لضمان التنافسية والتفوق، ما يعني تباين القوة بين مَن يملك ومَن لا يملك أدوات عصره.

وصولاً للتاريخ المعاصر، تشكّلت مفاهيم اقتصادية حول أهمية التقنية، بدءاً بجهاز الكومبيوتر حتى الساعة الرقمية التي تقيس نبضات الرياضيين، في تحديد مفهوم القوة، لذلك كانت القدرة على الابتكار والإبداع عاملاً أساسياً في ترقية وتطوير استخدام التقنية في الدول التي أولت اهتماماً كبيراً بها من أجل قدرة تنافسية تمنحها الأفضلية على دول العالم الأخرى. تدخلت التقنية في كل المجالات النوعية التي تضمن إنتاجاً عالياً، في الصناعة والطب والعلوم والدفاع والزراعة والتعليم، وغيرها. وكمسار طبيعي لتقييم القوى، تشكَّل تصنيف للدول ذات الأفضلية، التي استطاعت أن تقطع شوطاً في هذا المضمار، وتكون بشكل أساسي مصدراً لتصدير التكنولوجيا للبلدان التي تفتقر إلى صناعة التقنية.

التقنية التي تنقلت، وانكشفت بعض أسرار تصنيعها، ولّدت بدورها معياراً جديداً فرض لاعبين جدداً على الساحة التي كانت الولايات المتحدة، الدولة صاحبة اليد العليا المهيمنة عليها. والقوة الفعلية ليست فقط في امتلاك البيانات، بل في معالجتها وتحليلها والاستخدام الأقصى لها. على سبيل المثال، كثير من المقالات حول البيانات وقيمتها التنافسية التي ظهرت بعد وباء «كوفيد-19» استشهدت على أهمية امتلاك الحكومات بيانات تساعدها في تخفيف أضرار الوباء، مثل تلك المتعلقة بالصحة والسكان، لكن أيضاً أشاروا إلى أن امتلاك البيانات لا ينجح إذا لم تكن هناك قدرة ابتكارية لاستخدام هذه البيانات، والدول التي تمتلك هذه القدرة استطاعت تخفيف حدة الأضرار عن طريق وضع استراتيجيات للتوزيع الصحيح للقاح بناءً على البيانات المتاحة.

في عام 2021، نشرت صحيفة «فورن بوليسي» مقالاً عميقاً تحت عنوان «البيانات هي القوة». ذكر أنه خلال عام واحد أجرى 330 مليون شخص عمليات شراء عبر الإنترنت عابرة للحدود، حققت ما يصل إلى 25.6 تريليون دولار، على الرغم من أن 60 في المائة فقط من سكان العالم يستخدمون الإنترنت. القيمة هنا اقتصادية لصالح التجارة العالمية ولكن القيمة الأكبر أن عمليات الشراء هذه سمحت بتدفق معلومات هائلة عن المشترين.

ويتابع المقال: «البيانات تقود النجاح التجاري بشكل متزايد. استحوذت الشركات التي تم بناء مزاياها التنافسية من خلال تجميع البيانات وتحليلها واستخدامها، على أعلى مراكز في السوق في جميع أنحاء العالم. قبل 10 سنوات، كانت أي قائمة تضم أكثر 10 شركات قيمة تشمل منتجي النفط والغاز وشركات السلع الاستهلاكية والبنوك. اليوم، تهيمن شركات التكنولوجيا التي تتعامل في البيانات على القائمة، مثل (شيفرون) و(إكسون موبايل) و(فيسبوك) و(أمازون)، لأنها تحول كميات هائلة من البيانات من مليارات الأفراد والمؤسسات إلى قيمة اقتصادية جديدة. هذه التغيرات الهائلة لا تؤدي فقط إلى تحويل التجارة، بل تقلب السياسة العالمية رأساً على عقب». وقفز كاتبو المقال إلى المحور الحساس وهو المنافسة الجيوسياسية بين أميركا والصين: «إذا لم تضع الولايات المتحدة قواعد جديدة للعصر الرقمي، فسيقوم الآخرون بذلك. الصين على سبيل المثال تنشر نموذجها الاستبدادي التقني، وهي تدرك أن تشكيل قواعد القوة الرقمية هو عنصر أساسي في المنافسة الجيوسياسية».

الحقيقة أن هذا المقال وغيره من المقالات النوعية ربطت بشكل جلي بين البيانات والقوة، على مستوى الصناعات والتجارة والأمن. مصانع السيارات مثال آخر، لأن قيمتها السوقية اليوم ليست في التصنيع فقط، بل في المزايا التي تمنحها للقطع المصنعة، كبرمجة البيانات وخوارزميات الذكاء الاصطناعي. السيارات الحديثة مزودة بجهاز تتبع ومجسات لإيقاف السيارة تلقائياً في حال الاصطدام الوشيك، ومن خلال خرائط «غوغل» يستطيع السائق أن يتجول في كل الدول والمدن والقرى. ومن الشركات التي أدركت سريعاً العملة الثمينة، شركة «شيفرون» التي تعمل في مجال الطاقة، إذ إن مواكبتها للابتكار فيما يتعلق بتحليل البيانات أكسبتها تفوقاً على شركات أخرى مثيلة.

هذا العصر له أدوات قوة، تعتمد بالدرجة الأساسية على الابتكار والإبداع في التعامل مع كميات هائلة من البيانات قد تغير من مستقبل دول لم تتوقع قبل مائة عام أن تكون منافسة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد