القبولات الجامعيّة والقرارات المفاجِئة

mainThumb

31-08-2023 01:37 AM

 

لا شك أن مهمة الأستاذ الجامعي لا تنحصر في واجباته التدريسية والبحثية – على أهميتها- داخل أسوار الجامعة، وإنما تتعداها إلى المشاركة في نقاش منضبط في القضايا الملحة في محيطه الأكاديمي والمجتمعي. ولعل القضية التي تشغل الرأي هذه الأيام داخل أسوار مؤسساتنا التعليمية وفي محيطها المجتمعي تتعلق بجدوى القرارات التي صدرت مؤخرا عن أصحاب الشأن في مؤسسات التعليم العالي حول قبولات الطلبة في التخصصات الجامعية لهذا العام. فلا يخفى على القاصي والداني بأن تلك القرارات قد فاجأت الجميع، وربما تسببت في حالة من الإرباك ليس فقط لأصحاب العلاقة من الطلبة وذويهم وإنما للمسئولين أنفسهم في بعض حلقات صنع القرار في الدولة الأردنية. وسأحاول في السطور التالية تقديم وجهة نظر طرف من أطراف هذا الحوار الذي ما يزال يتسم بالطابع الإعلامي أكثر منه بالنقاش الأكاديمي الذي من المفترض أن يأخذ بناصيته الأكثر اطلاعا على تفاصيله وحيثياته. وسيجد القارئ بأني – كأستاذ جامعي- أكثر انحيازا برأيي هذا إلى من يعارضون وجهة النظر الرسمية التي ما انفك يروج لها أصحاب الشأن في المنابر الإعلامية الرسمية وغير الرسمية. فالرأي الذي سأحاول الدفاع عنه هنا يتمثل بوجهة النظر المقابلة التي ما يزال من تأثرت مصالحهم بهذه القرارات يتخافتون فيما بينهم بها، ويحدوهم الأمل بأن يتدخل من يجعل صاحب القرار يعدل عن رأيه قبل فوات الأوان. ومجمل القول في هذه المقالة يتلخص بمحاولتنا الإجابة – بصوت خافت - على تساؤل واحد، ألا وهو: لماذا نعارض وجه نظر الطرف الأول، صاحب القرار، المتمثل بتخفيض قبولات الطلبة في التخصصات الجامعية – خاصة الطبية منها- في الجامعات الرسمية لهذا العام؟


أما بعد،


نحن نظن (ربما مخطئين) بأن القرار الذي يتبناه أصحاب القرار في مؤسسات التعليم العالي لهذا العام، وهم على ما يبدو عازمون - حتى الساعة – على تطبيقه على أرض الواقع، قد جانبه الصواب لأسباب عديدة، نذكر منها:

أولًا: نحن نرى بأن أول مثالب تطبيق هذا القرار يتمثل في ضرب "مبدأ العدالة بين أفراد المجتمع" عرض الحائط. فمن غير المنطقي أن يُطبّق على خريجي هذا العام ما لم يطبق على أقرانهم في السنوات السابقة وربما لن يطبق على أقرانهم في الأعوام اللاحقة. ألم نعهد من ذي قبل تغيّر سياسات مؤسسات التعليم العالي بتغير من يتبوأ كراسي الإدارة فيها؟ فمن يستطيع تقديم الضمانة الحقيقية بألا تتغير هذه السياسات لو حصل (لا قدر الله) أن تغير مجلس التعليم العالي في قادم الأيام؟

ثانيًا: يجد كل من سمع بهذه القرارات من مكان بعيد أو بصر بها عن جنب بأن هذه القرارات قد تسببت في إحداث حالة من التأزيم داخل المجتمع، خاصة أن جوهر القرار قد انحرف بالقاطرة إلى الاتجاه المعاكس تماما دون سابق إنذار، مما يوحي بخطورة هذا الانتقال المفاجئ الذي ربما تكون تكلفته أكبر من الجدوى المرجو تحقيقها من تطبيقه. أليس من المفترض (نحن نتساءل) أن مؤسسات التعليم العالي محكومة بسياسات شبه ثابتة، يكون فيها الناس على بيّنة من أمرهم؟ وهل من العدالة في شيء أن تحظى أجيال عديدة بأنعم وفيرة فيها بينما يكابد جيل آخر ليحصلوا منها على شيء من سدر قليل؟

ثالثًا: يجد المراقب من الداخل بأن هذه القرارات ستضع بعض المسئولين في بعض حلقات صنع القرار في موقف لا يحسدون عليه. فسيجد رئيس الجامعة – مثلا- نفسه تحت ضغط تطبيق قرارات مؤسسة التعليم العالي من جهة مقابل ضغط معاكس لا يقل في وزنه وتأثيره من قبل كادره الوظيفي ومجتمعه المحلي من الجهة الأخرى. وهو الذي لا يجد – ابتداء - وقتا كافيا لحل ما يزال عالقا حوله من المعضلات التي تبطئ وتيرة المضي قدما بالمؤسسة التعليمية التي يتولى مهمة قيادتها. فلُبُّ القول هنا يتمثل بأن رئيس الجامعة لا يحتاج إلى مزيد من الأزمات التي ربما ترهق كاهله وكادره الإداري، المجهد أصلا بالأعباء الثقلية من ذي قبل.

رابعًا: سيجد المراقب الداخلي والخارجي بأن هذه القرارات تبيّن عوار منطق صاحب القرار بهذا الشأن. فلقد عهدنا أصحاب القرار أنفسهم ما انفكوا يوما يروجون لمنطق مثالي مفاده أن يترك للطالب نفسه فرصة اختيار التخصص الذي يريد بناء على رغباته وميوله وقدراته العلمية دون ممارسة سلطة إجبارية عليه من قبل الأهل والمجتمع من حوله، وها هم اليوم يمارسون هم أنفسهم سلطة فوقية إلزامية ليس فقط على الطالب وإنما على أهله والمجتمع بأكمله من بعدهم. فهل تبَقّى هناك في العالم حتى الساعة (نحن ما زلنا نتساءل) من يختط لطالب العلم ما يريد وما لا يريد؟ أليس من الأحرى أن يكون صاحب القرار هو القدوة الحسنة في أن يطبق اليوم ما كان ينادي به بالأمس؟

خامسًا: لن يعارض ذو لب بأن تنفيذ هذا القرار بحرفيته سيضع جميع مؤسسات التعليم العالي الرسمية في مأزق مالي جديد يضاف إلى وضعها المتأزم أصلا بهذا الصدد. فإذا كانت الجامعة التي يجلس على مقاعد الدراسة في واحدة من كلياتها ما يقرب من الألف طالب في الدفعة الواحدة لا تقوى على تأمين التكلفة التشغيلة لهذه الكلية، فكيف بها ستقوى على ذلك يوم لا تجد على مقاعد مدرجاتها التي بنيت بتكلفة مالية باهظة سوى كسر عشري من الأعداد السابقة؟ فهل – ترانا- سنفرح كثيرا عندما نرى مدرجات القاعات التدريسية في مبنى الحسين في جامعة اليرموك لا تملأ صفوفها إلاولى إلا بالعشرات من الطلبة هذا العام بعد أن كانت تعج بالمئات في الأعوام السابقة؟ وهل سنجد حافلة اليرموك – مثلا- تنطلق من إربد إلى مدينة الحسين الطبية بخمسة من الطلبة اليوم وعشرة غدا؟ وهل ستقوى جامعة اليرموك – مثلا- على دفع رواتب الكادر التدريسي في كلية الطب – مثلا- الذي عمدت الإدارة إلى رفعها في العام الماضي بشكل هائل لاستقطاب الكفاءات التدريسية التي ترقى بالكلية ذاتها ناهيك عن رواتب كادرها الوظيفي وكلفة الكلية التشغيلية؟

سادسًا: لن نتردد أن نقول – بعد كل ما رأينا بأم أعيننا وسمعنا بآذاننا حول تداعيات القضية- بأن هذه القرارات المفاجئة قد فتحت الباب على مصراعيه للكثيرين - وربما أعطت الحجة لقلة منهم - لإطلاق التكهنات (وشيئا من الشائعات) حول دوافع صناع القرار في إقدامهم على اتخاذ هذا القرارات في هذا العام على وجه التحديد، وقد وصل الأمر بالبعض إلى درجة إطلاق التهم - ربما جزافا- بالانحياز إلى فئة أصحاب المصالح على حساب المصلحة العامة للطلبة ولأهاليهم ولمؤسسات التعليم العالي الرسمية. والحالة هذه، أليس من الأفضل أن نتبنى الحكمة القائلة بأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح؟

سابعًا: إن تطبيق هذه السياسات في هذا العام (وربما في الأعوام القادمة) سيدفعنا إلى النكوص على أعقابنا عن مكافحة استنزاف موارد البلد المالية بإرسال الطلبة للبحث عن الدراسة على مقاعد الدول الأخرى القريبة منها والبعيدة. فمن سيقنع الطالب الذي بذل كل جهده للحصول على مقعد في كلية الطب أن تكون واحدا من خياراته المتاحة أمامة بعد تطبيق القرار هي البحث عن تحقيق ذلك في الخارج بعد أن تعذر عليه ذلك في الداخل؟ ومن سيقنع ذلك الأب الطامح أو تلك الأم الحالمة ألا يبيع ما تبقى من "حاكورة" منزلة أو ما يزال يزين صدرها من مساغها الذهبي القديم ليرسلا ولدهما إلى بلاد الله الواسعة باحثين له فيها عن مقعد في كلية الطب هناك؟ ألم يكن المنطق الذي روجه لنا صاحب القرار السابق في مؤسسات التعليم العالي بأن واحدا من أسباب سياسة التوسع في القبولات الجامعية في السنوات العشرة السابقة هو وقف استنزاف بعض موارد البلد في الإنفاق على التعليم العالي الذي تستطيع مؤسساتنا التعليمة المحلية توفيره؟ هل وجد صاحب القرار الحالي بأن خزائن البلد حبلى بالعملة الصعبة، فما عادت تتأثر بالإنفاق الخارجي على التعليم؟

ثامنًا: يعلل صاحب القرار وجهة نظره بحجة الإشباع، خاصة في التخصصات الطبية التي عمد القرار إلى استهدافها أكثر من غيرها عندما كانت نسبة التخفيض فيها تَطال حاجز نسبة 70% مما كانت في العام الفائت، ويكأن لسان حاله يقول بأن الانتقال إلى غيرها ما يزال من متطلبات سوق العمل المحلي. فهل يضمن لنا صاحب القرار بأن التخصص المنوي نقل الطالب إليه غير مشبع من ذي قبل؟ ألا يرى أصحاب القرار (وكثير منهم من أهل التخصصات الطبية) بأن سوق العمل في هذا المجال لا ينحصر على السوق المحلي؟ ألا يجد هؤلاء بأن نسبة كبيرة جدا من خريجي هذه التخصصات يجدون فرص عمل وفيرة في أكبر بلدان العالم ثراء؟ ألا يرى هؤلاء أن الأردن خزان ثمين لتصدير هذه الكفاءات في أرجاء المعمورة؟ ألم يكن الفخر لهذا البلد أن نجد خريجي مؤسساته التعليمية يجوبون مستشفيات العالم طولا وعرضا؟ ماذا يضير أصحاب القرار أن نتابع تغذية هذا الشلال الصافي فلا يتوقف جريانه؟! أليس هذا هو نهج قديم متجدد اختط لهذه المؤسسات التعليمية التي بُنيت على مبدأ شعار الحسين الباني " الإنسان أغلى ما نملك"؟ وهل توانى الإردني في بلاد الاغتراب يوما عن أن يرفد البلد بالعملات الصعبة التي تساهم في بناء مؤسساته وحفظ مقدراته وتعزيز قدراته؟

تاسعًا: ألا يرى أصحاب القرار أن التعليم الجامعي في هذا البلد ما عاد رفاهية فكرية؟ ألا يدري هؤلاء – أعزهم الله- بأن التعليم الجامعي في هذا البلد قد أصبح مرحلة مكملة لمراحل التعليم السابقة؟ هل بقي هناك من يظن بأن التعليم موجه لغايات التوظيف وحاجات سوق العمل المحلي بعد كل هذه الأعداد الغفيرة من الخريجي في كل عام؟ هل ظل من يطالب الدولة الأردنية بتأمين الوظائف لكل من يحمل شهادة جامعية؟ من يدري؟!!

وأخيرًا: بعيدًا عن لغة المنطق والحوار، وانحيازًا إلى قيم المجتمع وتقاليده وأعرافه وتعزيزا لروابط القربى بين أفراده، فإننا ندعو أصحاب القرار (وهم منا ونحن منهم) ألا يكون أحدهم (عن غير قصد منهم) سببا في وأد حلم شاب طامح، مايزال يضع قدميه على أول درجات السلم في حياته المستقبلية. فلقد سمعناها من بعض الشباب بأن رغبته في تحقيق أحلامه قد دفنت في مهدها يوم أن وجد جبلا من المعيقات التي تحبسه عن تحقيقها، فلسان حال المتميزين منهم يقول لكم يا سادة: "طيب جبت فوق التسعين في التوجيهي، شو بقدر أعملكوا أكثر من ذلك حتى أحصل على بعض ما كان لكم أنتم أنفسكم في سابق الأيام؟" فلا يكن أحدكم – يرحمكم الله – سببا في الزجّ بشبابنا الطامح إلى غيابة "الخيال الفردي" الذي ربما – لا قدر الله- يولد لديهم الشعور بالنقمة ويزعزع عندهم فطرة الانتماء للوطن.

والله من وراء القصد


 * منقولًا بتصرّف عن لسان ابنته التي حصلت على معدل أعلى من معدل والدها في الثانوية العامة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد