كيف نصنع الابتكار الحقيقي

mainThumb

31-05-2025 11:24 PM

في عالم متسارع التغير، بات الابتكار ضرورة وجودية للدول التي تسعى لموقع تنافسي في الاقتصاد العالمي، إلا أن الابتكار لا ينمو في بيئة مشتتة أو معزولة، بل يحتاج إلى انسجام مؤسسي بين أركان أربعة هي التعليم، والبحث العلمي، والقطاع الخاص، والسياسات الحكومية، هذا التكامل ليس مجرد فكرة نظرية، بل شرطٌ واقعي تؤكده تجارب الدول التي حققت قفزات نوعية بفضل بناء منظومة متماسكة للإنتاج المعرفي والتطبيقي.

تُظهر التجربة الفنلندية كيف أن التعليم لا يُقاس بجودته الأكاديمية فقط، بل بقدرته على التفاعل مع الاقتصاد، في جامعة آلتو، لا تُدرّس المساقات بمعزل عن الواقع، بل تُصمم بالتعاون مع شركات كبرى مثل "نوكيا"، حيث يشارك الطلاب في تحديات حقيقية تُثري تجربتهم وتحوّل الجامعة إلى بيئة إنتاج أفكار قابلة للتطبيق، هذه الديناميكية جعلت من فنلندا موطنًا لشركات ناشئة رائدة في مجالات تكنولوجيا الألعاب والذكاء الاصطناعي.

كوريا الجنوبية تقدم نموذجًا مختلفًا في طبيعته، لكنه مشابه في جوهره، فالدولة التي لم تكن تملك ثروات طبيعية، اختارت أن تراهن على العقول، فرفعت من إنفاقها على البحث والتطوير إلى مستويات قياسية تجاوزت 4.9% من الناتج المحلي، لكن ما يجعل التجربة الكورية فريدة هو أن أغلب هذا التمويل يأتي من القطاع الخاص، الذي يعمل بتنسيق وثيق مع الجامعات والمؤسسات البحثية، مدفوعًا بحوافز وسياسات شجّعت هذا الانخراط العميق.

في سنغافورة، تم دمج مكونات المنظومة في مؤسسة واحدة تحت مسمى "هيئة الابتكار الوطنية"، وهي كيان استراتيجي يربط بين مراكز البحث والقطاع الخاص ومؤسسات الدولة، ويضمن أن تتحول المعرفة الأكاديمية إلى مشاريع قابلة للنمو والربح، الجامعات هناك تُقيّم بمدى أثرها الاقتصادي وليس بعدد ما تنتجه من أوراق علمية، مما غيّر طريقة تفكير الأكاديميين والطلاب على حد سواء.

أما في العالم العربي، فتواجه بعض الدول تحديًا مضاعفًا، لا يقتصر على ضعف التنسيق بين المؤسسات، بل يشمل أيضًا غياب الرؤية التطبيقية للبحث العلمي، فثمة دكاترة وأكاديميون ينتجون عددًا كبيرًا من الأبحاث، لكنهم لا يعملون على تفعيل نتائجها في واقعهم المحلي، ولا يشاركونها مع المجتمع من خلال الإعلام أو الحوار العام، وكثيرًا ما تُنشر هذه الأبحاث في مجلات أجنبية يصعب الوصول إليها محليًا، مما يُفرغها من تأثيرها الممكن في السياسات والمؤسسات.

الأردن، رغم تميّزه في التعليم وتصديره للعقول، لا يزال يحتل المرتبة 73 عالميًا في مؤشر الابتكار لعام 2024، مع إنفاق لا يتجاوز 0.3% من الناتج المحلي على البحث العلمي، العلاقة بين الجامعات وسوق العمل ما تزال ضعيفة، والمنظومة تفتقر إلى جهة تنسيقية تُجسّر الفجوات بين الباحث والمُنتِج وصانع القرار، وهنا تبرز الحاجة لربط البحث العلمي مباشرة باحتياجات المجتمع والصناعة، وإعادة توجيه الجهد الأكاديمي نحو الأثر لا الكم.

النموذج العملي للابتكار لا يقتصر على الإنفاق، بل على خلق بيئة تترجم المعرفة إلى حلول، والأفكار إلى مشاريع، والتخصصات الأكاديمية إلى قوة اقتراح في السياسات العامة، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا حين تتحدث الجامعات بلغة السوق، وتُقيّم جهود الباحثين بناءً على أثرهم المحلي، لا على عدد المنشورات في مجلات بعيدة عن الواقع الوطني.

في هذا السياق، يصبح الابتكار مشروعًا مجتمعيًا لا حكوميًا فقط، يتطلب ثقافة تقدّر القيمة التطبيقية للفكر والعلم، يجب أن يشعر الأكاديمي بأن أبحاثه يمكن أن تُغيّر الواقع، وأن يرى القطاع الخاص في الجامعات شريكًا حقيقيًا في النمو، هذه الشراكة هي حجر الزاوية في أي نهضة علمية واقتصادية.

التجارب العالمية تثبت أن النجاح في الابتكار لا يأتي من استيراد نماذج جاهزة، بل من خلق منظومة وطنية مرنة تربط بين العقل والسياسة والسوق، وهنا يبدأ دور الإرادة السياسية والوعي المؤسسي، ليكون الابتكار ممارسة يومية لا شعارًا مؤقتًا، إن أردنا النهوض فعلًا، فعلينا أولًا أن نكسر عزلة البحث عن الواقع.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد