بائع الأقمشة المتجول

mainThumb

01-06-2025 05:46 PM

هناك وفي حارات البلدة القديمة، يظهر رجل مربوع البنية، ومتوسط القامة، يسير في طرقات البلدة العتيقة، ويرفع على كتفيه حزمة من أقمشة متنوعة و زاهية الألوان، يربطها بحبل نحيل ومتين، ويمتد على طول تلك الحزمة ذراع من خشب يستخدمه مقياسا للقماش.
يرتدي أبو خالد على رأسه شورة بيضاء، بللها عرق التجوال، و يثبتها على رأسه بعقال أسود اللون، مائلا نحو كتفه الذي يحمل عليه حزمة الأقمشة المتراصة، ويرتدي جاكيتا غامق اللون كثيف السماكة كأنه من الجوخ الخالص.
أبا خالد ليس من تلك البلدة العريقة، لكنه بائع متجول، يأتي إليها من خارجها، وعلى فترات، لا يعرف عنه أهل البلده إلا انه أبو خالد بائع القماش.
كان يبيع في تلك البلدة أقمشته بيعا حاضرا، وكذلك كان يبيع بالدين وعلى اقساط ميسرة.
كان أكثر قماش البلدة من تجارته، ففي الماضي، نادرا ما كانت النساء يذهبن إلى المدينة لشراء القماش، لذلك كن ينتظرن ما يجلبه أبو خالد من قماش، ويعتمدن عليه في الشراء.
ثياب الملابس كان تخيطه الخياطة خيرية من القماش المشترى من بضاعة صاحبنا.
وكذلك ثياب فراش منازل، كان من بضاعته ايضا، و وجوه المخدات الزرقاء والزهراء، و المطرز عليها عبارات الصباح والمساء، كلها كان ياتي بها وكأنها هدايا من السماء.
من أجل ذلك كانت فوارق القماش المستخدم كثياب للفرش في البلدة فوارق لا تذكر، سواء من حيث نوعها أو لونها.
كان الرجل يتجول في شوارع البلدة، وجبهته السمراء تتصبب عرقا من مسيرة الطويل تحت أشعة الشمس.
وعندما يمر في حي من أحياء البلدة كان ينعقد حوله سوقا فوريا، يعرض فيه القماش على نساء الحي، وكان الاطفال يتحلقون حول ذلك السوق وكانه ميدان لعب لهم.
أما الرجال فكانوا يراقبون السوق من بعد، ونادرا ما ينغمسون في شؤونه، إذ أن خبرتهم في القماش لم تكن معتمدة عند النساء.
كان السوق يزخر بالمفاصلة على الأسعار، وبتأكيد جودة البضاعة. وكان بائعنا المتجول، يبيع بيعا حاضرا، وكذلك يبيع بالدين، ويسجل الديون، بقلم حبر على دفتر، يضعه في جيبه الصغير، يستخدمه لتوثيق الدين، وكذلك لتوثيق ما تطلبه النساء من أقمشة كي يحضرها معه في جولته القادمة، مع أن ذاكرته كانت كما كان يقول ذاكرة ثاقبة و لا تنسى، إلا أنه كان يحتاط بالتسجيل لكي يتجنب الخلاف مع الزبائن إن نسي أحدهم مرة من المرات.
كان أبو خالد يغيب قليلا، وأحينا كان يطيل الغياب، لكنه كان يعود أخيرا، و عندما يحضر كانت تحضر معه الألوان الزاهية، فتفرح الاحياء، بحضور قماشه الجديد لتجديد الثياب والبسط و الفرش، التي كان يتجدد معها الفرح، ذلك الفرح البسيط، الذي كان يصنعه البسطاء.
قلت: في الماضي كان الفرح يأتي مع بائع متجول، يرسمه و ينقشه ذلك البائع في ذاكرتتا العميقة.
واليوم الفرح إن أتى، فهو يمر سريعا، كلمع البرق، لا ينظر إليه خشية أن يخطف الأبصار.
أما صاحبنا بائع القماش، فانه ذات مرة ومنذ عقود خلت، سجل طلبات سيدات البلدة، وغاب، لكن هذه المرة، لم تطل بعد ألوان قماشه البهية من على كتفه الذي أرهقه تعب الحياة.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد