كيف يحوّل الأردن التحوّلات العالمية إلى فرص استثمارية

mainThumb

21-07-2025 11:19 PM

تتصاعد التوترات التجارية عالميًا مع اقتراب مهل زمنية جمركية أميركية جديدة وارتفاع الحواجز إلى مستويات تُوصف بأنها الأعلى منذ قرن، ما يدفع الاقتصادات إلى إعادة تموضع في التجارة وسلاسل الإمداد. في هذا السياق، حذّرت جيتا جوبيناث، النائب الأول لمدير عام صندوق النقد الدولي، من أنّ عدم اليقين يظل مرتفعًا رغم بعض الانفراجات، وأن توقعات النمو العالمي التي خُفِّضت في أبريل إلى 2.8% لعام 2025 ستُراجَع مجددًا نهاية يوليو، مع ملاحظة “تقدّم الشحنات قبل زيادة الرسوم وتحويل مسارات التجارة”. هذه الخلفية العالمية تشكّل الإطار الخارجي الذي يتحرك فيه الأردن كمستقبل محتمل لرؤوس الأموال الباحثة عن بدائل آمنة.

بالنسبة للأردن، فإن قدرة المملكة على جذب الاستثمار الأجنبي والمحلي لا تتحدد فقط بعوامل داخلية؛ بل بكيفية مواءمتها مع موجة إعادة تشكيل التجارة العالمية ومع أجندة الإصلاح المتفق عليها مع صندوق النقد. مراجعة الصندوق الأخيرة لبرنامج التسهيل الممتد أكدت متانة الأداء النسبي رغم بيئة إقليمية صعبة، وأشارت إلى نمو 2.5% في 2024 واستمرار الزخم مع إصلاحات هيكلية، فيما تعمل الحكومة على مسار لخفض الدين وتحسين القطاعات الحيوية بدعم من مرفق الصلابة والاستدامة. في الوقت ذاته، أعلن مسؤولون أن الهدف هو النزول بنسبة الدين إلى 80% من الناتج بحلول 2028 ضمن حزمة إصلاحات أوسع تتماشى مع الرؤية الاقتصادية التحديثية.

غير أن الوثائق والخطط، مهما بلغت جودتها، لا تخلق ثقة استثمارية تلقائيًا؛ هنا يأتي دور فلسفة كايزن: التحسين المستمر، خطوة صغيرة كل يوم، يراكم ثقة ويقلل احتكاكات المستثمرين بدل انتظار “إصلاح شامل” مؤجل. الفكرة بسيطة: بدل تغيير القانون كل بضع سنوات، حسّن التطبيق الأسبوعي؛ بدل إطلاق مناطق استثمارية ضخمة بلا خدمات، عالج عنق الزجاجة في الترخيص، الربط الكهربائي، أو تحويل الأرباح. هذا المنهج التراكمي هو ما ينقص أغلب بيئات الاستثمار في المنطقة، والأردن ليس استثناءً.

إذا بدأنا من تشخيص دقيق، فالمشكلة ليست “ضعف الاستثمار” مجردًا، بل عدم استدامة تجربة المستثمر: اختلاف التطبيق بين المؤسسات، تقلب الحوافز، وعدم اليقين الضريبي من سنة إلى أخرى. تقرير المناخ الاستثماري الصادر عن الحكومة الأميركية يلاحظ صراحة أن الأردن يُظهِر انفتاحًا رسميًا على الاستثمار لكنه يعاني في التطبيق العملي، خاصة لجهة عدم استقرار النظام الضريبي وتفسير السياسات بطريقة غير متسقة. هذه الانقطاعات في السلسلة المؤسسية تُضعف ثقة المستثمر المحلي قبل الأجنبي.

مع ذلك، شهد عام 2024 تحسّنًا لافتًا في التدفقات: سجّل الأردن صافي تدفق استثمار أجنبي مباشر قدره 1.637 مليار دولار، يعادل نحو 3.1% من الناتج المحلي الإجمالي وفق بيانات أولية لميزان المدفوعات. اللافت أن 64.8% من هذه الاستثمارات جاءت من دول عربية، منها 32.5% من دول مجلس التعاون الخليجي تتصدرها الكويت، تليها السعودية ثم الإمارات فقطر؛ كما ساهمت أوروبا بنسبة تفوق الخمس، وبرزت قطاعات التمويل والاتصالات والتعدين والنقل والعقار. هذا التنوع يبرهن أن رأس المال يأتي حين تُتاح فرص واضحة، لكنه يشير أيضًا إلى أن الجاذبية ما تزال قطاعية وموسمية وليست منظومية.

لماذا لا تتحول هذه الطفرة إلى مسار مستدام؟ بتطبيق أداة “لماذا؟” المتسلسلة على الطريقة الكايزنية: لماذا يتردد المستثمر في التوسعة؟ لأن الكلف غير متوقعة. لماذا غير متوقعة؟ لأن الضرائب والرسوم تتغيّر أو تُفسَّر بطرق مختلفة. لماذا التفسير مختلف؟ لأن البيروقراطية متشعبة والرقمنة غير مكتملة. لماذا الرقمنة بطيئة؟ لأن التنسيق المؤسسي ضعيف والموارد البشرية غير مدرّبة بما يكفي. هذه السلسلة تلتقي مع ملاحظات تقرير المناخ الاستثماري بشأن التباين في التطبيق، ومع تحذيرات صندوق النقد من مخاطر عدم اليقين والسياسات المتقلبة على النمو.

ما العمل؟ نهج التحسين المستمر يقتضي حزمة إجراءات صغيرة متتابعة: منصة رقمية موحدة “نافذة واحدة” لجميع خدمات الاستثمار تقلّص التكرار الورقي؛ إطار ضرائبي متعدد السنوات يُعلَن مسبقًا لتقليل عدم اليقين؛ آلية “خدمة ما بعد الاستثمار” لمعالجة شكاوى الشركات خلال 30 يومًا؛ جداول زمنية ملزمة لربط المشاريع بالبنية التحتية؛ ونشر تقارير شفافة ربع سنوية عن المعوّقات التي تمت إزالتها. هذه الخطوات تتماشى مع إصلاحات بيئة الأعمال التي يشجع عليها الصندوق، ومع الجهد الحكومي الأوسع لإسناد النمو بالاستثمار الخاص ضمن برنامج الإصلاح والدينامية التحديثية.

تتقاطع هذه التوجهات الإصلاحية مع ركائز خطة التحديث الاقتصادي الأردنية، التي وضعت نصب أعينها إعادة بناء الثقة مع المستثمر عبر إصلاح تشريعي عميق، وتبني التحول الرقمي، وفتح آفاق جديدة أمام الشباب في سوق العمل، فضلًا عن تحفيز القطاعات الخضراء والطاقة النظيفة. ففي ضوء مقارنة الأرقام، ورغم تسجيل تدفق استثماري تجاوز 800 مليون دينار في النصف الأول من 2024، إلا أنه لا يزال دون مستويات ما قبل الجائحة (حوالي 1.1 مليار في نفس الفترة من 2019)، ودون الطموحات المرتبطة بـ"اقتصاد الإنتاج". وهنا تبدو الحاجة إلى أدوات عملية مثل "مؤشر الثقة الاستثمارية" الذي يُقيس – بصورة فصلية – أداء الجهات الحكومية من وجهة نظر المستثمرين المحليين والأجانب، بما يُحول المزاج العام إلى رافعة إصلاح لا إلى مجرد انطباعات. كذلك، من المهم تبسيط بعض المفاهيم للرأي العام، فمثلًا، "علاوة المخاطر" تعني ببساطة أن المستثمر يطلب ربحًا أعلى عندما يرى أن البيئة الاستثمارية غير مستقرة أو غير واضحة. وإذا لم يتم تقليل هذه العلاوة عبر إصلاحات فعّالة، فإننا سنبقى عالقين في دائرة التردد وضعف الجاذبية الاستثمارية.

عنصر الثقة المالية لا يقل أهمية: مراجعة الصندوق الأخيرة تشير إلى احتياطيات أجنبية تجاوزت 20 مليار دولار بنهاية 2024، تضخم منخفض، وحزمة ضبط مالي تدريجي لوضع الدين على مسار هابط مع الحفاظ على الإنفاق الاجتماعي والاستثماري الضروري. هذه المؤشرات، إذا استُثمرت إعلاميًا ومؤسسيًا، يمكن أن تخفض علاوة المخاطر المطلوبة من المستثمرين الأجانب وتُسند تمويل المشاريع الكبرى، خاصة مع الهدف المعلن لخفض نسبة الدين إلى 80% من الناتج بحلول 2028.

البيئة العالمية تمنح الأردن نافذة استراتيجية: تحويل مسارات التجارة عالميًا بفعل الرسوم الأميركية والتحوّطات الجيوسياسية خلق طلبًا على “مواقع بديلة” للإنتاج وإعادة التصدير. جوبيناث أشارت إلى دلائل على “تحويل مسارات التجارة” و“تقدّم الشحنات قبل الرسوم”، بينما نقلت رويترز أن الصندوق يراقب هذه التحركات عن كثب مع بقاء المخاطر الهابطة مهيمنة. إذا عزز الأردن لوجستياته، وربط مناطقه الصناعية بموانئ العقبة وبشبكات رقمنة جمركية سريعة، فقد يقتنص جزءًا من هذه التحولات.

الرؤية بعام 2030 يمكن أن تكون مختلفة لو اعتمدنا كايزن مؤسسيًا: إجراءات أسرع بنسبة 50% في الترخيص، وضوح ضريبي لخمس سنوات، نافذة استثمارية رقمية تربط المستثمر بالبنوك والبلديات، وحوافز مرتبطة بالتوظيف المحلي والطاقة النظيفة. كل تحسين صغير يُراكم ثقة، وكل نقطة ثقة تخفّض تكلفة رأس المال، وكل انخفاض في الكلفة يفتح مشروعًا جديدًا. هذا التدرج، لا الصدمات، هو ما يصنع انتقالًا نوعيًا في الاستثمار.

في النهاية، الاقتصاد أشبه بسفينة صغيرة تبحر وسط أمواج حرب تجارية عالمية؛ لا نستطيع إيقاف الأمواج، لكن يمكننا ضبط الشراع كل يوم. إذا تبنّى الأردن ثقافة التحسين المستمر، وحوّل التحديث الاقتصادي من وثيقة إلى ممارسة يومية، فسيجد أن رأس المال المحلي والأجنبي ينجذب تدريجيًا إلى ميناء أكثر استقرارًا ووضوحًا. تحذيرات الصندوق من عدم اليقين ليست حكمًا نهائيًا بل دعوة مفتوحة: حسّن اليوم لتستثمر غدًا.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد