الحياة العادية هي ما يتبقى

mainThumb

21-07-2025 11:51 PM

أحيانًا، لا يحدث شيء؛ لا نهاية مبهرة ولا بداية درامية. فقط صباح يشبه الأمس، وملعقة تصطدم بجدار الكوب، وصوت الثلاجة يهمس بشيء لا نفهمه. لكننا نغضب، أو ننزعج، فنختنق من هذه التفاصيل، من هذا التكرار، من العادي الذي لا يتركنا. وربما يكون هذا هو ما نخشاه حقًا: الفراغ، الصمت، التكرار الذي لا يحمل مفاجأة.
قالت الفيلسوفة الفرنسية أديل فان ريث، إن العادي ليس اليومي، ولا المعتاد، ولا المألوف. العادي هو ما لا يمكن لمسه بسهولة، لكنه ما يبقى في نهاية كل تبدل. هو الشيء الذي ينجو من الفقد، ربما من السفر أو من الطلاق، من تبدل الأسماء، من كل محاولة للهرب. وهو أيضًا ما يجعلنا نقول في لحظة ما: لا أطيق هذا. وكأن العادي يحتال علينا، يتخفى تحت التفاصيل الصغيرة حتى لا نراه بوضوح.
في لحظة عابرة، يوم بدا بسيطًا مثل كل الأيام، تشعر أن شيئًا ما انكسر. لا نعرف اسمه ولا شكله، لكنه انكسر. كأن التعب القديم قرر أن يتكلم، أو أن القلق الذي تجاهلته طوال الأسبوع قرر أن يجلس قربك ويضع يده على كتفك. ليس حزنًا، ولا ألمًا واضحًا. مجرد انزعاج ناعم، يذكرك بأنك حي، وأنك مضطر للمواصلة. يتسلل هذا الشعور فجأة، دون إنذار، مثل شق خفيف في زجاج لا نعرف متى ظهر.
هذا هو العادي. لا بطولة فيه ولا انهيار، فقط تعب صغير لا يمنع السعادة، وهم لا يمنع الحب. تلك اللحظة التي تريد أن تصرخ فيها من صوت الملعقة، بينما قبل يوم كنت تصفه بالصوت الحنون الذي يشي بالماضي الجميل. بل هو شريط خافت من المشاعر يمرّ دون أن يُعلن عن نفسه.
أحيانًا أفكر أن الحياة العادية خدعة. ليست كذبة، بل خدعة مكررة، نكررها كل صباح حين نقول لأنفسنا: كل شيء على ما يرام. رغم أننا نعلم، في الداخل، أن شيئًا ما متعب، أن هناك ثقلًا في الروح، أن العادي بكل هدوئه يربكنا لأنه لا يتغير. ذلك الشيء الذي لا اسم له، لكنه يجثم بثقله على أرواحنا.
تقول أديل: «العادي لا يتوقف أبدًا»، وهذا ما يؤلم؛ ليس لأنه مرعب، بل لأنه قريب، يلتصق بك، لا يترك لك مساحة لتتظاهر، أو لتنسى من أنت. العادي هو أن تكون كما أنت، بلا أقنعة، بلا مسافات، هو ما يعرّينا من كل محاولات التجميل والتجمّل.
أجلس أحيانًا في المطبخ، أراقب الغسالة تدور، وأفكر أنني جزء من هذه الدائرة. أفعل الأشياء نفسها، أردد العبارات ذاتها، وأتظاهر أنني أعيش حياة جديدة كل يوم، بينما الحقيقة هي أنني أعيش اليوم نفسه بلحن مختلف. أضحك من النكت القديمة وكأنها تُقال لأول مرة.
العادي ليس مملًا كما نظن؛ هو مليء بأشياء صغيرة لا نتوقف عندها، صوت طبق يوضع على الطاولة، ابتسامة خفيفة في نهاية مكالمة، نداء من بعيد: هل أعددتِ الشاي؟ تلك الجملة التي تُقال كل ليلة، لا تطلب الشاي فقط، بل تطلب الأمان. تطلب طمأنينة من نوع نادر، لا يمكن شرحه بل يُشعر فقط؛ وهو فن التعود على ألفة الأحداث.
مرة، كتبت أديل عن لحظة كانت تستعد فيها لحياة جديدة، بينما كانت تودع حياة أخرى. كانت تكتب عن طفل قادم، وأب يرحل، عن انتظار وبكاء لا يُبكى، عن لحظة يلتقي فيها الفقد بالبداية، في صمت لا يحتاج إلى شرح. كأن الحياة تفتح بابًا وتغلق آخر في الوقت ذاته.
هناك لحظة لم تُكتب في الكتب، حين تسير إلى غرفتك، تخلع حذاءك، وتشعر بثقل لا تعرف مصدره. ليست كارثة وليست قصة تُروى، هي فقط: العادي، وقد خذلنا قليلًا لأن ليس بعده شيء، عادي إلى درجة أننا لا ننتبه إليه. وتلك اللحظة تحديدًا تُشبه الهمس الداخلي الذي لا يُترجم بالكلمات.
لكن، رغم كل شيء، تعلّمت أن لا أهرب. لم أعد أبحث عن الحب كما كتبوه، ولا عن الفرح كما غنّوه. صرت أبحث عن طمأنينة في التفاصيل. عن وجه أعرفه. عن صوت مكرر لكنه مألوف. عن حياة تُشبهني، لا تُبهرني. عن ملمس غطاء السرير، عن طريقة انسكاب الضوء من الشباك نفسه كل يوم.
الحياة العادية، بكل ما فيها من تعب وتكرار، هي الحياة التي نحياها حقًا. ليست ما نكتب عنه، ولا ما نُظهره. هي ذلك الشعور الذي يأتيك فجأة وأنت تغسل الصحون، أنك موجود، أنك رغم كل شيء، ما زلت تمشي. أنك رغم التعب، لم تنسَ نفسك كليًا.
ربما أكتب هذا الآن ليس لأقول شيئًا جديدًا، بل لأقول لنفسي: أنا هنا. أكتب من قلب العادي. من اللحظة التي لا تحبها الروايات، لكنها تحفظك من الجنون. وربما، في هذا الاعتراف، خلاص صغير. ليس خلاصًا من الحياة، بل منها أيضاً.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد