جنب حائط

mainThumb

01-08-2025 12:05 AM

عالم موحش فج هذا الذي نعيش فيه، عالم استفرد الأقوياء فيه برقاب الضعفاء، عالم تطورت فيه أدوات الموت حد تمكين عدد قليل من الوحوش البشرية من عدد هائل من البشر، فأعملوا قتلاً في هؤلاء وإخراساً في أولئك، حتى خَلُصَ العالم لهم، يقتلون فيه بلا حساب، ويقمعون فيه بلا حساب، ويستربحون فيه غدراً ليس بعشرات ولا مئات ولا آلاف، بل ملايين البشر. إنه زمن صفاقة العته، زمن وقاحة التعري، زمن انعدام الحياء السياسي الذي كان يُعتبر دبلوماسية ذات يوم، والذي من خلاله كان الساسة يحاولون على الأقل إخفاء سوءاتهم. لم تعد حكومات العالم تساند القاتل وتموله وتغذيه بالسلاح وتساعده على منع وصول المساعدات لضحيته فقط، بل استدارت هذه الحكومات على شعوبها ليتلقى من يعترض على هذا الفحش الإنساني، بل وأي فحش سياسي إنساني كبر حجمه أو صغر، داخلياً كان أو خارجياً، نصيبه من التعزير والقمع والضرب والحبس. إنه عالم «الأخ الأكبر» الذي تنبأ به الروائي العظيم جورج أورويل في رائعته 1984 والتي من خلال سرديتها تنبأ بشمولية عالمية، كلها محكومة بيد قائد غير مرئي يدعى «الأخ الأكبر». وها نحن اليوم عالمياً تحت رحمته، لا صوت لنا ولا إرادة، لا في الشأن الخارجي حيث أهل غزة يقتلون بفحش ونذالة وانحطاط غير مسبوقين، ولا في الشأن الداخلي في كل دولنا حيث اختفى تقريباً الصوت المعارض ومشت الشعوب، وخاصة العربية، صفوفاً طويلة منتظمة جنب الحائط.
لا يمكن أن يكون هناك مجتمع صحي معافى دون صوت معارض صادح فيه، صوت يُبقى حكومته على أطراف أصابعها، يبقيها حذرة من المراقبة والنقد والغضبة الشعبية، وبالتالي ساعية دائماً لتصحيح مسارها أو في أسوأ الأحوال، لإخفاء سوأة أخطائها. يختفي هذا الصوت عالمياً اليوم شيئاً فشيئاً، يختفي لصالح المصالح وتحت طائلة التخويف والقمع وتحت تأثير وسائل التواصل والذكاء الاصطناعي، الذين على قدر ما هم ينشرون الحقائق ويفضحون المستور، يلهون العالم ويشتتون انتباه البشر ويجرون الناس لمخدرات الصور والحكايات والمتاجر الإلكترونية والفيديوهات العصابية الفارغة استبعاداً بهم عن الوقائع البشعة الآخذة في التشكل أمام أعينهم.
نحن كلنا، ويا لعار الاعتراف هذا، خائفون، نحن خائفون خوفاً متراكماً هرمياً، خائفون من خوف يعلوه خوف يعلوه خوف. الغرب المجبول على الحرية ومفاهيم المشاركة في الحكم والحق الأصيل للإنسان على أرض الدولة المدنية لا يزال يخرج في مظاهرات واعتصامات، تصل لأن تكون مليونية أحياناً، رغم ما يتعرض له مؤخراً من ضرب وقمع وسحل واعتقال. فرغم كل أدوات القمع والتخويف هذه، تتفوق البرمجة الغربية على الحرية والحق في المشاركة في الحكم وصنع القرار، وعلى كل مشاعر خوف أو أنانية. هذه شعوب تدفع ضرائبها ليعلوا صوتها، وتستوعب تماماً أن في حكوماتها موظفين لخدمتها، وأن صناع قرارها هم رهن إشارة رضاها. هذه شعوب، رغم ما ينالها اليوم من محاولة إعادة برمجة بالقمع والتخويف، تفهم حقوقها وتعرف قوتها، متخطية عشائريتها البشرية القديمة التي طالما فرضت عليها طاعة «الأخ الأكبر» إلى حيز المجتمع الإنساني الحديث، حيث لا يكبر أحد على أحد.
نحن نخاف، نخاف من أسرنا، من آبائنا، من كلام الناس وحكم المجتمع، من مدرسينا، من مسؤولينا، من حكوماتنا، من شرطتنا، من أصحاب العلاقات والمال في مجتمعنا، هؤلاء الذين يدعسون رقابنا وصولاً للأعلى في وضح النهار بلا خشية ولا حياء. نحن نخاف إلهنا خوفاً يعمينا عن حبه، نحن نخاف أن نقول لا، أن نقع في معصية ولي الأمر، فينقلب علينا ولي الأمر هذا هو والإله الذي فسره ورسمه على مزاجه، بعيداً عن فكرته السامية، ليرعبنا به. نحن نخاف مقار الشرطة التي يفترض بها أنها تحمي وتسترجع الحقوق، حتى جرى العرف على قول «أنا إنسان محترم لم يسبق لي أن دخلت مخفر شرطة» أو «السيدات المحترمات لا تدخل مخفر شرطة» وكأن زيارة مخفر الشرطة هذا وصمة عار واعتراف بذنب مسبق.
المحصلة أننا خائفون باستمرار، والخوف المستمر يصنع ظلاماً دائماً يتفشى فيه النفاق والسرية والكذب، وكأنها كلها عفن يربض على أرواح الخائفين. الخائف حياته كلها ليل، لا يرى نور الشمس ولا يعرف كيف يحيا تحت أشعتها، هو يحتاج للظلام ليستطيع أن يتحرك آمناً على نفسه وحياته. الخائف يضطر لأن يكون منافقاً، يكذب على أهله وأساتذته ومسؤوليه وحكومته وحتى ربه، حتى يطال شيئاً من الشعور بالأمان ولو كان وهمياً. الخائف يمثل باستمرار إلى أن يصبح التمثيل حقيقته، إلى أن يذوب نفاقه الذي لربما كان يخفي تحته عقل حر وشجاعة تود أن تنطلق، ليصبح الذل والانكسار هما الواقع النفسي والحقيقة الحياتية. الخوف يعيد برمجة الإنسان من هذا الحر الأبي ذي الكرامة، إلى ذاك المستعبد الذليل الذي تنحصر أقصى أحلامه في لقمة وهدمة وسقف يعلو رأسه المنحني الكسير.
والخوف يقتل جمعياً، وها نحن نرى الضحية الجمعية للخوف في عالمنا العربي متمثلة في صوت المعارضة الحقيقي الجمعي للشعوب العربية، رحمها الله، المعارضة والشعوب، وأحسن مثواها. ولكن نحمد الله أننا مجبولون على عبادة المسؤولين، نحمد الله أننا مبرمجون على الذل ومتدربون على السكوت، فهذا ما يسهل علينا الرضوخ لصمت اليوم الصاخب في شوارعنا العربية، ما ييسر علينا أن نغض البصر عن أطفال غزة المتساقطين كل يوم تجويعاً وتعطيشاً ومرضاً، فيما نجلس بشراً آليين بدائيين على سفراتنا العامرة بطعام يتخم أجسادنا ويكتم عقولنا. ألف حمد وشكر لهذا الخوف القديم المتوارث، إرثنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وما وجدنا عليه آباءنا. على الأقل، هو يعفينا مواجهة ما يواجهه الغرب المتهور المجنون. ألف حمد وشكر لحكوماتنا العربية أن بنت لنا حائطاً أصلاً، حائطاً نمشي بجانبه ونستند إليه. الحمد لله على نعمة الخوف الذي يكسر النفس ويستأصل عزتها ويريحها من تفاعلها الغرائزي مع الآخرين. ألف حمد وشكر..



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد