هولوكوست غزة
هو ليس مجرد غياب للطعام، بل حضورٌ كثيفٌ للظلم وتفريغٌ للإنسانية من إنسانيتها. الجوع في غزة، ذلك الذي لا يُقاس بأيّ مسطرة كونيّة أو كيلوغرامات البشر، ذلك الذي لا يسعه أيّ قميص لأية لغّة فبوحه أخرسٌ أخرس، هناك حيث الأمهات تُنقِّطُ الحليب من ريق قلبها ولا تبلعه كي لا تجوع أكثر، هناك حيث الأطفال تعلمّوا أن يربطوا على بطونهم حجارة، لا لشدّة الشبع، بل لتذكير الجسد أنه ما زال موجوداً رغم كل محاولات المحو، في غزة الجوع ليس مجازاً، بل يقين يوميّ لأناس لا يملكون إلاّ أن يأكلوا ظلّهم. كيف نبرر لأطفالنا في غزة أن الحليب ممنوعٌ لأنه على الجانب الآخر من البحر؟ وكيف نبرر أن الكون يغمض عينيه عن الجائعين فهم لا يصنعون الأخبار إلا إذا ماتوا؟
لم نعد نرى غزة كما عرفناها في نشرات الأخبار ومنابر الشاشات منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، بلاداً تتعرض لحرب عدوانية غير متكافئة، إذ ثمة متغير جديد عملت عليه الماكينة الحربيّة الإسرائيلية طوال أشهر فاستجد على الصورة من هناك: صارت الوجوه ناحلة حتى العظم، وبطون الأطفال منتفخة من الجوع، والأمهات يخففن وجبة الخبز بالماء والملح. صار اليومي أن نرى كتلاً بشريّة تتدافع على شاحنات مساعدات لا تكفي، وشباباً يفتشون عن بقايا طعام في القمامة، وأطفالاً إن لم يقضوا من الجوع ناموا منهكين على معدة فارغة. لا يمكن وصف هذه المشاهد المروعة كلّها إلا بكلمة واحدة: تجويع. لكنّ ما لا تقوله الصور، ولا تشرحه التقارير العاجلة، هو أن ما يحدث في غزة ليس مجرّد مجاعة؛ بل سياسة ممنهجة، أداة من أدوات الحرب، سلاح دمار شامل، أشد فتكاً من القصف، وأكثر ترويعاً من النار. مزيج مروع من هيروشيما وهولوكوست الحرب العالمية الثانية وقد أعيد إنتاجهما بأحدث أدوات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ضد آخر معازل الفلسطينيين على البحر الأبيض المتوسط.
هندسة التجويع
عندما نصف الشكل الأحدث لحرب الإسرائيليين على غزّة بهيروشيما/ هولوكوست فتلك ليست بعواطف، وإن كان حري بكل ذي ضمير أن يغضب، لكن من يبحث قليلاً سيدرك أن الجوع في حالة غزة المحاصرة ليس جريمة عسكرية عادية، بل وراءه هندسة مضبوطة وعلم. وسيدرك أيضاً أن ما يحدث فيها لا يختلف كثيراً عما وثّقته التجربة المخبرية الشهيرة في جامعة مينيسوتا قبل ثمانين عاماً وبنى عليها عالم الفسيولوجيا الأمريكي أنسل كيز كتابه المرجعيّ «بيولوجيا التجويع البشري- 1950» والذي ما زال إلى اليوم أهم دراسة علمية دقيقة عن الجوع مختبرياً، قبل أن يحوله المشروع الصهيوني إلى سلاح دمار شامل في حرب الإبادة ضد شعب بأكمله.
«تجربة مينيسوتا»: مراحل الجوع
كان كيز وفريقه قد أجرى خلال الحرب العالمية الثانية تجربة على 36 شاباً أمريكياً، أخضعوا لتجويع جزئي منتظم لستة أشهر، بهدف دراسة آثار نقص التغذية على الجسم والعقل، فخُفضت وجباتهم اليومية إلى ما يقارب 1600 سعرة حرارية فقط، مع الحفاظ على ظروف معيشية آمنة، ورعاية صحية. لكن النتائج كانت مرعبة، إذ فقد المشاركون أكثر من ربع وزنهم، وعانوا من فقدان الطاقة، وانخفاض حرارة الجسم، وتورّم الأطراف، وأصيبوا باكتئاب شديد، واضطرابات نفسية، وهوس بالطعام، وتملكتهم ميول عدوانية. بل إن أحدهم قطع إصبعه عمداً نتيجة الانهيار العصبي، وحتى بعد انتهاء التجربة، استمر من خضعوا لها لفترة طويلة يعانون من اضطرابات في الأكل، والذاكرة، والنوم.
ما يلفت في التجربة أن كل ذلك حدث لأشخاص بالغين، أصحّاء، تحت إشراف طبي، وفي بيئة مستقرة. فكيف تكون الحال حين يُفرض الجوع على أطفال في مخيمات، محاصرة منذ ما يقارب السنتين دون ماء أو كهرباء أو دواء أو أي أفق لوقف الحرب!
منذ أكتوبر 2023، وغزة تتعرض لحصار كامل، فقد مُنع إدخال الغذاء والوقود، وقصفت المنشآت الزراعية والمخابز، واستهدفت البنى التحتية بشكل ممنهج، وكلها عوامل حوّلت القطاع إلى سجن كبير يُدار بالجوع.
التقارير الأممية تتحدث عن مستويات «كارثية» من انعدام الأمن الغذائي، وتؤكد أن نصف السكان يواجهون خطر المجاعة، وأن عشرات الآلاف من الأطفال في غزة يعانون من سوء تغذية حاد، وأن الموت بالجوع أصبح واقعاً، لا مجرد تهديد. وصارت أرقام من قضوا نحبهم جوعاً تنافس شهداء القصف وخديعة انتظار المساعدات، فيما بقية السكان الأقل قدرة على المغامرة في البحث عما يسد رمقهم ينتظرون بصمتهم في الخيام وتحت الأنقاض.
لكن الأرقام، مهما كانت صادمة، فلا تُظهر الصورة كاملة. ما لا يُقال على التلفزيونات هو كيف يتحول الجوع إلى تجربة وجودية. كيف يصبح الشخص المُجوَّع أسيراً لذهن مهووس بالطعام، فاقداً للتركيز، مرعوباً، متقلب المزاج، مشلول الإرادة. تجربة كيز بيّنت أن الإنسان الجائع لا يبقى نفسه، بل يتفتت عقلياً وعاطفياً حتى يكاد يفقد إنسانيته. فكيف سيكون الحال إذا كان الجوع مصحوباً بحرب لا تتوقف، وخوف يتعاظم، وحزن لا ينتهي؟
متلازمة إعادة الإطعام: القتل بعد النجاة
في نهاية تجربة كيز، حاول العلماء «إعادة تغذية» المشاركين. المفاجأة أن معظمهم لم يتحمل الطعام. البعض أكل حتى تقيأ، وآخرون لم يستطيعوا التوقف عن الأكل. هذه الظاهرة تُعرف اليوم بـمتلازمة إعادة الإطعام، حيث يؤدي ضخ السعرات فجأة إلى اختلال مميت في السوائل والأملاح.
في حالة غزة اليوم هذا شريان خطورة قد يتفلت، لأن أي تدخل غذائي متأخر قد يكون كأنه قاتل تامّ إن لم يُدر بعناية طبية معقدة. فالتجويع لا ينتهي حين تصل المساعدات، بل قد يبدأ عندها فصل جديد من الأذى: فالكلى لا تتحمل، والقلب ينهار، والأمعاء ترفض الامتصاص. إنها معادلة قاسية: تموت إن جُعت، وقد تموت إن أكلت.
الأكثر كارثية هو الجوع عند الأطفال تحديداً، إعدام مضاعف، فالعقل في سنواته الأولى يحتاج الغذاء لينمو، ويحتاج البروتينات لتتشكل وصلاته العصبية، ويحتاج المعادن ليبني المناعة. الأطفال الذين يجوعون لا يتأخرون دراسياً فحسب، بل يُحرَمون من مستقبل كامل. فالحرمان الغذائي في سنوات النمو الأولى يخلّف آثارًا غير قابلة للعكس: قصر قامة دائم، تلف في الجهاز العصبي، تأخر ذهني، وضعف مناعي مزمن. والأجنة التي تتغذى على جسد أم جائعة تُولد بأجساد أضعف، وقابلية أكبر للأمراض المزمنة، والسكري، والأمراض النفسية. في غزة، الجوع لا يقتل فقط من هم الآن أحياء، بل ومن لم يُولد بعد. هذا هو أثر التجويع الهيكلي: إنه هندسة لانهيار مجتمع على مدى جيل أو أكثر، ومحو بيولوجي لمستقبل شعب، وتخريب محكم لمستقبله.
التجويع سلاحاً
الجوع لا يؤثر فقط في الصحة، بل في الشخصية، وفي القدرة على التصرف، وعلى مشاركة الناس في إدارة مجتمعهم، وعلى بناء الأمة، إذ لا يمكن بناء مجتمع طبيعي حر على بطون خاوية. وهذا بالضبط ما يفعله الحصار الإسرائيلي، المدعوم ضمنيًاً من قوى دولية وعربية وإسلامية في غزة. إنها ليست مجاعة طبيعية. إنها قرار سياسي، وهندسة للبؤس، وتوظيف للجوع كأداة لتهشيم النسيج المجتمعي، وتحويل الناس إلى «أشباح حية» – كما وصفهم العالم الأمريكي -. ولذلك، لا يكفي أن نطالب بإدخال المساعدات، ولا يكفي أن ننشر صور الأجساد الهزيلة. فلا أقل من تسمية الأشياء بأسمائها: ما يحدث في غزة هو تجويع ممنهج، وجريمة حرب معلنة لا تقل فظاعة عن جريمة هيروشيما أو محرقة الهولوكوست. ومن واجب كل من تبقى له شيء من الإنسانية، أن يفضح هذه الجريمة، ويسعى لوقفها، لا أن يطبعها، ويعتادها.
سلام لغزة الجائعة بانتظار أن يمشي البحر إليها مُحملاّ بالطحين والحليب.
إعلامية وكاتبة – لندن
وفاة طفل وإصابة اثنين في مشاجرة بحفل زفاف بعمان
40 وظيفة مهددة بالاستبدال بسبب الذكاء الاصطناعي
الحسين إربد يسحق الأهلي بخماسية في افتتاح الدوري
فينيسيوس يهاجم إدارة مدريد بسبب عقده
تنفيذ حملة موسعة لتحسين الواقع البيئي بمركز حدود العمري
وفاة فتى تحت عجلات شاحنة في إسطنبول
تسريب يكشف ألوان iPhone 17 الجديدة .. صور
ارتفاع ضحايا المجاعة بغزة إلى 162 شهيداً
اللاعب أنس أبو الفول ينضم للفيصلي
الاتحادات تحدد موعد انطلاق دوريات أوروبا
هنادي الكندري توضح حقيقة طلاقها بعد الجدل
بيان من حركة فتح بشأن التصريحات العدائية تجاه الأردن ومصر
تغيير مفاجئ في "الحلم" بعد 19 عاماً على الشاشة .. صور
مهم للأردنيين المتقاعدين مبكراً والراغبين بالعودة الى العمل
إنهاء خدمات 39 موظفاً للتقاعد المبكر .. أسماء
فصل مبرمج للتيار الكهربائي عن هذه المناطق .. أسماء
مئات المدعوين للامتحان التنافسي .. أسماء
حدائق الحسين تمنع الأراجيل وتبدأ تفتيش المركبات
السفارة الأردنية تحذر الأردنيين المقيمين في ولايات أميركية
التربية تحدد موعد إعلان نتائج التوجيهي 2025
البلقاء التطبيقية تخرج طلبة كلية إربد .. صور
نظام جديد يضبط تطبيقات النقل الذكية في الأردن قريبًا .. تفاصيل
موجة حر تضرب المملكة ودرجات الحرارة تتجاوز 47 مئوية في الأغوار
كم بلغ سعر كيلو الدجاج في الأردن .. تفاصيل
التربية تعلن أسماء 348 مرشحًا لقروض إسكان المعلمين
مهم بشأن تصنيف طلبة التوجيهي لغايات التقديم للجامعات الرسمية