صمود غزّة .. لحظه غيّرت وجه الشعوب ومسار التاريخ

mainThumb

06-08-2025 11:47 AM

لم يكن العدوان على غزّة مجرّد فصل آخر من فصول المأساة الفلسطينيّة المستمرّة منذ أكثر من سبعين عاماً، بل شكّل لحظةً فاصلة أعادت تشكيل الوعي الجمعي العالمي، وفرضت معادلاتٍ جديدة على الساحة السياسيّة والإعلاميّة والدوليّة، ليس بفضل أنظمةٍ عربيّة صامتة، ولا قياداتٍ متخاذلة، بل بفضل مقاومةٍ شرسة وصمودٍ أسطوريّ قادته غزّة نيابة عن شعبٍ مظلوم، وعن أمةٍ مُغيّبه بأكملها.
غزّة، بصبرها وجراحها، أعادت تدويل القضيّة الفلسطينيّة التي غُيِّبت قسراً من أولويّات المجتمع الدولي لعقود، وفرضت نفسها من جديد بنداً أول على طاولات المفاوضات ومجالس الأمن وبرلمانات العالم. لم يكن بالإمكان إعادة الحديث عن حلّ الدولتين، ولا فرضه كأجندة دوليّة، لولا مشاهد الدماء والدمار التي دفعت المجتمع الدولي، تحت ضغط الشعوب، لإحياء هذا الطرح الذي خفت ذكره.
لقد قلبت غزّة الطاولة سياسيّاً وعسكريّاً. فإسرائيل، رغم ترسانتها، لم تستطع فرض الحسم، لا ميدانياً ولا إعلاميّاً، فيما بدا حلفاؤها العرب في موقع العاجز أو المتواطئ. أما على مستوى الخطاب الدولي، فقد تحوّلت السردية: من "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها" إلى "حقّ الفلسطينيين في الحياة والحرية"، وهذا التحوّل لم يكن صدفة، بل بفعل مشهدية المقاومة وصوت الضحايا.
غزّة، التي تعرّضت للإبادة على مرأى من العالم، أحرجت المنظومة القانونية والإنسانيّة الدوليّة، وكشفت هشاشة مجلس الأمن وهيئات الأمم المتحدة، وفضحت ازدواجية المعايير التي تمنح الحصانة للجلاد وتُدين الضحيّة. لقد سقطت أقنعة كثيرة، وباتت مؤسسات يُفترض أنها نصيرة للعدالة، مكشوفة أمام ضمائر الشعوب.
لقد أيقظت هذه الحرب الضمير العالمي. مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، والنساء المذبوحات، والمستشفيات المدمّرة، حركت العالم بأسره. خرجت الملايين في تظاهرات غير مسبوقة من نيويورك إلى لندن، ومن جنوب افريقيا إلى طوكيو، مطالبة بوقف العدوان، داعمة لغزّة، كاشفة عن هشاشة الخطاب الرسمي الغربي الذي طالما تبنّى الرواية الإسرائيليّة.
وحدّت غزّة الشعوب، كما وحدّت المنظمات الشعبية والخيرية والحقوقية، في مشهدٍ تضامنيّ لم تعرفه القضيّة الفلسطينيّة منذ الانتفاضة الثانية. نشأت مبادرات إغاثيّة عابرة للقارات، جمعت المليارات، وأطلقت حملات توعية ومقاطعة فاعلة أعادت الضغط على الشركات التي تدعم الاحتلال، ما حوّل الدعم الشعبي إلى قوّةٍ اقتصادية وموقفٍ استراتيجي.
ليس هذا فحسب، بل إن المقاومة في غزّة ساهمت بشكل مباشر في تغيير مواقف دول كبرى. اعترفت دول أوروبية مثل إسبانيا والنرويج وإيرلندا وسلوفينيا بالدولة الفلسطينية، ودفع هذا الزخم الشعبي حكومات مثل فرنسا وبريطانيا إلى اتخاذ مواقف برلمانية أكثر انحيازاً للحقّ الفلسطيني، في مشهد يعكس حجم التغيّر الذي فرضته غزّة بدمها، لا بالدبلوماسيّة التقليدية.
على الجهة الأخرى، كشفت هذه الحرب مدى الانهيار السياسي والعسكري العربي. أنظمةٌ عاجزة حتى عن قول كلمة حق، أو عن إدخال شحنة دواء، أو كيس طحين. تبريراتهم الواهية لم تكن سوى تغطية على تواطؤ واضح، وعلى تبعيّة عمياء للولايات المتحدة التي تستخدمهم كأدوات، لا كشركاء. لقد عرّت غزّة هذا الخنوع العربي، وفضحت وهم الاستقلال السياسي والسيادة المزيّفة.
المقاومة في غزّة لم تُسقط فقط الرواية الإسرائيلية، بل فرضت على العالم إعادة تعريف مفهوم الردع، وكشفت حدود القدرة العسكريّة الإسرائيليّة. فجيش الاحتلال الذي لطالما روّج لأسطورة الحسم الخاطف، وجد نفسه في مستنقع استنزاف طويل، تراجع فيه الردع، وارتفعت فيه كلفة العدوان على المستويين الأمني والسياسي.
كما كشفت غزّة عورات العقيدة الغربية في ما يسمّى «الديمقراطيات الليبرالية»، إذ ترددت هذه الدول في اتخاذ مواقف واضحة من الجرائم، قبل أن تدفعها الشعوب والبرلمانات والكنائس إلى تغيير خطابها. لقد توحدت الأديان، وتحدث البابا باسم الضمير الإنساني، وطالَب بنصرة أهل غزّة، وهو مشهد استثنائي يعكس مدى تأثير ما يحدث على وجدان البشرية.
أخيراً، أعادت غزّة طرح السؤال الكبير: ما قيمة القوانين والمؤسسات والتحالفات إن كانت عاجزة عن وقف مجزرة؟ وما معنى السيادة إن كان الفلسطيني لا يستطيع دفن أطفاله، ولا توفير دواء لجرحاه؟ لقد قدّمت غزّة درساً أخلاقيّاً وسياسيّاً وعسكرياً للعالم، وفرضت مشهداً جديداً، لا يتعلّق فقط بحقّها في المقاومة، بل في كونها ضمير الأرض الحي، الذي لا يموت.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد