المملكة الأردنية النبطية

mainThumb

09-08-2025 08:29 PM

في قلب الصحراء الموحشة، حيث يرى الغريب جبالًا صامتة وصخورًا قاحلة تتلوّن بأطياف الرمل، كان الأنباط يرون وطنًا حيًّا ينبض بالأمان والثراء، ومسرحًا لمجدهم الذي صاغوه بإرادتهم الحديدية وفطنتهم التي حارت فيها العقول.
هناك، في البتراء، استطاعوا أن يزرعوا الحياة في الصخر، وأن يجعلوا من الوهاد والمرتفعات مدنًا عامرة وحدائق غنّاء، وأن يحوّلوا الجبال الحمراء إلى قلاع حصينة تبتلع الغزاة كما يبتلع الثقب الأسود النور، فلا يدري العدو إن كان يواجه بشرًا أو جنًّا أو حجارة ناطقة.
لم يكن ظهور الأنباط على مسرح التاريخ مجرّد صدفة أو طفرة عابرة، بل كان ثمرة تخطيط طويل وحكمة متراكمة. ورغم أن تاريخ نشأتهم السياسية والاقتصادية الدقيق يظل غامضًا، إلا أن نجمهم بدأ يسطع مع اتساع الإمبراطورية الآشورية التي وحّدت بلدان الهلال الخصيب وأمنت طرق التجارة البرية الكبرى.
وحين التقت طرق الآشوريين بقوافل الأنباط، لم يكن اللقاء صدامًا فحسب، بل كان أيضًا فرصة، إذ أتقن الأنباط فن التكيّف السياسي، فاقتربوا من القوة العظمى بدل الاصطدام بها، واتخذوا التجارة والرعي والزراعة أساسًا لازدهارهم، مستفيدين من الأمن النسبي الذي وفّرته السيطرة الآشورية.
لقد منحهم موقع مملكتهم بين الشام والعراق والبحر الأحمر ومصر مكانة لا تضاهى، فصاروا أوصياء على عقد التجارة في المشرق، يفرضون الضرائب على القوافل، ويتولون نقل البضائع الثمينة من بخور الجزيرة العربية وتوابل الهند إلى أسواق الشام ومصر وروما. هذا الدور لم يمنحهم الثراء فحسب، بل صنع لهم سمعة الهيمنة الهادئة التي تجذب التجار وتربك الطامعين.
وحين اندفعت جيوش الإسكندر المقدوني كالإعصار تجتاح المشرق، توقفت رياحه عند حدود الأنباط، فلم يتمكن من إخضاع أراضيهم رغم سطوة جيشه. وبعد رحيله، حين تقاسم السلوقيون والبطالمة إرثه، ظل الأنباط شوكة في خاصرة الطامحين.
ففي عام 312 قبل الميلاد، واجه جيش نبطي قوامه عشرة آلاف مقاتل حملة عسكرية بقيادة أنتيجونوس، أحد أبرز قادة الإسكندر، استهدفت البتراء نفسها، فكانت النتيجة درسًا عسكريًا بليغًا: فشل الهجوم أمام حصون الصخر وأفواه الوديان المموهة، حيث كان الأنباط يعرفون كل منعطف ويستغلون الطبيعة كسلاح.
وتكررت المحاولات؛ فقد سعى السلوقيون والبطالمة إلى كسر احتكار الأنباط للطرق التجارية، وحاول البطالمة قطع الطريق البرية إلى مصر، لكنهم وُوجهوا بمقاومة عنيدة، ولم ينجحوا إلا في فرض هدنة مؤقتة. ومع ذلك، ظل الأنباط يحتفظون بقدر من الاستقلال والسيطرة على قلب الصحراء، حتى أن البطالمة آثروا الالتفاف على نفوذهم بالسيطرة على موانئ البحر الأحمر والساحل الفينيقي، بدلاً من المغامرة بمحاولة اقتلاعهم من معاقلهم.
لم يكن الأنباط مجرد تجار أو محاربين، بل كانوا مهندسين للحياة في بيئة يظنها الغريب ميتة. ففي البتراء، حفروا القنوات في الصخر، وأنشأوا خزانات مياه مخفية، وجعلوا من الوديان الجافة شرايين تفيض بالحياة.
كانوا يعرفون كيف يُخزّن الماء ويُوزّع بدقة، بحيث لا يعرف العطش طريقًا إلى بيوتهم ولا حقولهم، حتى غدت مملكتهم واحتهم الخاصة وسط بحر الرمال. لقد كانت حياتهم في هذه الجبال أشبه بالسرّ، وسرّهم الأعظم أنهم جعلوا المستحيل ممكنًا، وأنهم أجادوا فنّ أن يظلّوا عصيّين على الفهم قبل أن يكونوا عصيّين على الغزو.
ورغم أن الرومان أنهوا استقلال مملكتهم عام 106 للميلاد وضموها إلى إمبراطوريتهم، فإن إرث الأنباط بقي خالدًا، محفورًا في جدران البتراء، ومنقوشًا على صخور وادي رم، وماثلًا في الخط النبطي الذي أنجب الخط العربي لاحقًا. لقد برهنوا أن العبقرية العربية قادرة على صنع حضارة مزدهرة من قلب الصحراء، وأن البتراء، التي قد يراها الغريب صحراء حجرية، كانت في الحقيقة مدينة الأحلام، تحيا وتتنفس وتخفي بين طياتها سرّ الأنباط الذي لم يُفكّ بعد.
لقد كان الأنباط الأردنيون أكثر من مجرّد صفحة في سجل الممالك القديمة؛ كانوا روحًا حضارية نابضة بعثت الحياة في التاريخ والتاريخ في الحياة، حياة متجددة لا تنقضي ولا تتوقف، فجعلوا من وجودهم ومآثرهم حكاية مستمرة تتجاوز زمنهم لتظل تلهم الأجيال.
لقد فهموا أن البقاء لا يكون بالعدد وحده، ولا بالقوة المجردة، ولا بالألقاب الواهنة والهبات والاعطيات واوهام السلطة السرابية، بل بالقدرة على قراءة الجغرافيا ككتاب مفتوح، واستنطاق الطبيعة لتبوح بأسرارها طوعا او كرها ، ثم تطويع تلك الأسرار لتخدم الإنسان وتمنحه أسباب القوة والرخاء.
في عالمٍ كانت تتبدّل فيه القوى العظمى، وتزول فيه الإمبراطوريات كما يذوب الجليد في الشمس، أبدع الأنباط في صياغة معادلة نادرة تمزج بين الدهاء السياسي، والحنكة التجارية، والابتكار الهندسي، فجعلوا من مملكتهم محورًا للتجارة، وقلعةً منيعة، وواحةً غنّاء وسط قسوة الصحراء.
كانت البتراء قلب هذه المعجزة، لا كمجرد عاصمة، بل ككائن حي ينهض كل صباح على أصوات الأسواق، وهدير الماء المنساب في قنواته، ووقع أقدام القوافل العائدة من أصقاع الأرض. هنا، كانت الجبال تحرس البشر كما تحرس الأم أبناءها، وكانت الصخور ذاتها تتحوّل إلى جدران وأعمدة وواجهات معابد تلمع تحت شمس النهار وتتلألأ تحت نور القمر.
لم تكن هذه المشاهد ضربًا من الخيال، بل واقعًا عاشه الأنباط بذكاء خارق، حتى بدا الأمر لمن يحاول غزوهم وكأنه يدخل إلى عالم غامض تحكمه قوانين لا يعرفها سواهم. كانوا في عيون الغزاة أشبه بالسراب؛ يقترب منه الطامع فلا يمسك به، ويظن أنه أحاط بهم فإذا هو غارق في متاهات وديانهم وجبالهم التي تتغيّر مع كل منعطف.
وإذا كان التاريخ قد سجّل أسماء قادة وجيوش وفتوحات، فإن الأنباط أضافوا إلى هذا السجل فصلًا فريدًا في "فن الوجود والبقاء "، حيث لم يكتفوا بردّ العدوان، بل حوّلوا كل محاولة لغزوهم إلى فرصة لتعزيز هيبتهم وسمعتهم.
لقد برعوا في جعل حدودهم غير مرئية، ومكامن قوتهم غير متوقعة، فكان العدوّ لا يعرف من أين يأتيه الخطر، ولا كيف تنقلب الرمال تحت قدميه إلى فخاخ، أو كيف تتبدّل مسارات المياه لتقطع عنه أسباب الحياة. في هذه الأرض، لم يكن الغريب يعرف إن كان يواجه بشرًا من لحم ودم، أم جنودًا من حجر، أم أشباحًا من أساطير الصحراء.
هكذا، ظل إرث الأنباط الأردنيين حاضرًا لا كمجموعة أطلال صامتة، بل كرسالة متجددة عن قدرة الإنسان الأردني البدوي النقي ابن القبيلة على الانتصار على قيود البيئة، وعن براعة العقل الأردني حين يُطلق العنان لخياله وطاقته. فالبتراء لم تكن في يوم من الأيام مجرد حجارة حمراء او وردية او مخلوطة ، بل كانت – وما زالت – شهادة خالدة على أمة عربية اردنية بعثت الحياة في التاريخ، وادخلت التاريخ في سجل الحياة بدون اذن من غريب، حياة متجددة لا تنقضي ولا تتوقف، تحمل في طياتها عبق الماضي ووعود المستقبل ’ وتاريخ تتجدد صفحاته كل يوم في سجل الحياة .
في البتراء، كانت الأرواح تعرف طريقها قبل الأقدام، وكان المكان يختزن سرًّا لا يفكّه إلا من عاش بين جدرانه الصخرية ومرّ في أروقته الضيقة التي تتسع فجأة على ساحات من نور. هناك، في قلب الوادي، حين يتسلّل نسيم الصباح من بين شقوق الجبال، يحمل معه أصداء الصلوات القديمة التي ارتفعت منذ قرون، متداخلة مع صدح الطيور وهديل الحمام، وكأن الطبيعة كلّها قد اتفقت على أداء نشيد واحد لا يسمعه إلا أهل البتراء، أولئك الذين ورثوا الحجارة والنقوش والهواء ذاته من أسلافهم الأبطال.
لم تكن هذه الأصوات مجرّد خلفية للحياة اليومية، بل كانت جزءًا من نسيجها، كما لو أن الجبال تحفظ الدعاء في تجاويفها وتعيد بثّه في لحظات السكون. وعندما كان المسافر أو التاجر يقترب من أسوارها الطبيعية، كان يشعر أن الوادي نفسه يراقبه، وأن الريح تحمل إليه رسائل مبطنة تحذّره أو ترحّب به، تبعًا لنيّته ومقصده. البتراء لم تكن مدينة بالمعنى المألوف، بل كانت كائنًا حيًّا يتنفّس مع الصباح، ويغفو مع الغروب، ويصغي لخطوات أبنائه كما تصغي الأم لأنفاس طفلها.
لقد أبدع الأنباط في جعل هذه الطبيعة القاسية رفيقًا وحارسًا في آن، فالصخور التي تراها أعين الغرباء جرداء قاحلة، كانت في نظرهم جدرانًا رحيمة تحفظ الدفء في الشتاء وتمنح الظل في الصيف، وتخفي خلفها خزائن الماء وأسرار الممرات.
وحين يعلو الصدى بين جنبات الوادي، كان يبدو كما لو أن الزمن نفسه قد توقّف ليمنح تلك اللحظة الخالدة فرصة أن تبقى، فتظل البتراء مدينة تسمع همسها أنت وحدك إذا كنت من أهلها، وكأنك دخلت في عهد قديم بينك وبينها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد