قراءة فلسفية لما يحدث في فلسطين

mainThumb

28-08-2025 12:26 AM

غالبا ما يغوص ضمير العالم في الصمت؛ وأحيانا يتردد صداه بجملة حق واحدة. اليوم، من بين أولئك الذين يذكروننا بهذا الصدى، الذي يتصاعد من بين أنقاض غزة، الفيلسوفة الإيطالية روبرتا دي مونتيتشيلّي. كتابها المعنون بـ»الإنسانية المنتهكة في فلسطين» ليس مجرد نص فلسفي، بل هو أيضا نداء للإنسانية: كتاب مليء بالدروس يظهر كيف يمكن للقانون والضمير والعقل أن يعاودوا الإنبات حتى في قلب الظلام.
في وقت يحضر فيه أسطول الصمود العالمي العشرات من السفن لتوصيل المساعدات الإنسانية إلى غزة، تؤكد مونتيتشيلّي، أن المفاهيم الفلسفية أيضا يجب أن تتجسد الآن: ما تحتاجه البشرية اليوم أكثر من أي شيء هو «الصمود»، أي الإرادة للتشبث بالجذور والمقاومة وعدم الاستسلام. كلمات مونتيتشيلّي ليست منسوجة بالفكر النظري فقط، بل أيضا بالوقائع القانونية الملموسة. في 19 يوليو 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية رأيها الاستشاري حول النتائج القانونية للاحتلال، بناء على طلب الأمم المتحدة: الاحتلال غير قانوني؛ والأكثر من ذلك، هو نظام فصل عنصري، وهو محاولة للضم، ونظام تمييز عنصري.
تفسر مونتيتشيلّي هذا القرار على أنه «تنوير للعقل العملي في عتمة الظلام». في رأيها، هذا القرار لديه القوة، ولا يزال بإمكانه أن ينير طريق هروب الحضارة من الانتحار في عصر تُساق فيه الإنسانية نحو الهاوية. لكن الفيلسوفة لا تخفي الحقيقة العارية. المشاهد التي تظهر مدى جدية القانون الدولي، تشبه تقريبا مثالا على الكوميديا السوداء: المندوب الأمريكي الذي عارض العضوية الكاملة لفلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة وبقي وحيدا.. وبعد القرار، المندوب الإسرائيلي جيلاد إردان الذي مزق ميثاق الأمم المتحدة بآلة تمزيق الأوراق والقى به على الأرض.. هذه المشاهد لا تكشف فقط عن موقف دولة واحدة؛ بل أيضا عن كيفية تشويه ميزان ضمير الإنسانية. مونتيتشيلّي عندما تنظر إلى غزة، لا ترى فقط المباني المدمرة، بل ترى الحقيقة المقتولة، تقول: «في كومة الألم والدمار في قطاع غزة، تحترق روح العالم». لأنه هناك لا يتم تدمير الأجساد والأرواح فقط؛ بل يتم تدمير معنى اللغة، وصوت الأمل، وذاكرة التاريخ. تدمير الوثائق، والسجلات، والمدارس، والمساجد، والجامعات، والمتاحف؛ هو محو ممنهج لذاكرة شعب. هذه ليست مجرد عملية عسكرية، بل هي إلغاء كلي للهوية الإنسانية. أقسى انتقادات ‎مونتيتشيلّي ليست فقط لمن يمارسون العنف، بل للعالم الذي يتغاضى عنه. تصرخ قائلة: «كم من الأشياء ألغينا! ارفعوا غطاء اللامبالاة». لأن الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم يلجؤون إلى الستار الزائف للصور الأخلاقية، بدلا من رؤية الحقيقة، ولكن لا يزال هناك خيط أمل: ذلك الإيمان الهش ولكن الثابت بأنه لا يزال هناك قاضٍ في برلين أيضا، بأن الحقيقة سوف تسود يوما ما. يتشبث الفلسطينيون بهذا الإيمان، وحتى عدد قليل من اليهود الإسرائيليين ذوي الضمير يتشبثون بهذا الخيط الرفيع.

تدعو روبرتا دي مونتيتشيلّي العالم إلى الصمود العقلي والفعلي على حد سواء: «يا له من نعمة عظيمة أن نستمر في الإيمان بالعقل، بالقانون، وتكريس حياتنا كلها للمقاومة اللاعنفية». في رأيها، يمكن للحقيقة أن تظهر فقط من خلال رفع غطاء الأكاذيب والتحيزات واللامبالاة، لذلك فهي تنادي الإنسانية: «يجب أن نربي ليسينغ جديد، وسيمون فايل جديدة، ومحمود درويش جديد، وإدوارد سعيد جديد. يجب أن نعيد التعبير عن تلك الثقة القديمة، بأن إذلال المظلومين لن يفسدهم، ولن يجعلهم جبناء».
كتاب ‎مونتيتشيلّي يشبه بيانا ندائيا ليس فقط من أجل فلسطين، بل من أجل الإنسانية جمعاء. إنها تظهر كيف تتقاطع الفلسفة مع أقسى حقائق الحياة اليومية، وكيف يندمج القانون بلغة الضمير. أكبر سؤال يواجه البشرية اليوم هو: هل سنكون قادرين على البقاء أوفياء للحقيقة؟ أم أننا سنستمر في الغرق في ظلام اللامبالاة؟
لأن الإنسانية بدأت تغرق عندما كبرت وتوقفت في يومٍ ما عن إطلاق قواربها الورقية على الماء. حان الوقت الآن لإطلاق تلك القوارب مرة أخرى على الماء، أي استدعاء أصفى أشكال الجمال الإنساني إلى العالم.


كاتب تركي



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد