خوف بارد

mainThumb

01-09-2025 12:06 AM

كنت على يقين من أن الكاتبة الإماراتية عائشة سلطان ستفاجئنا بنص إبداعي، لا يهم جنسه، سواء أكان رواية أو مجموعة شعرية أو قصصية، فمن اطلع على مقالاتها (أزيد من 9000 مقال) أو كتبها الأربعة: «أبجديات» و»شتاء الحكايات» و»في مديح الذاكرة» و»هوامش في المدن والسفر والرحيل»، يجد فيها كثيرا من السرد الفني، وبراعم قصص لم تتفتح وتستقل، وقد صدق اعتقادي حين قرأت مجموعتها القصصية «خوف بارد»، الصادرة هذه السنة 2025 عن بيت الحكمة في القاهرة، وتحتوي على أربع عشرة قصة متفاوتة الطول، أقصرها قصة «قدم صفراء» في ثلاث صفحات ونصف الصفحة، وأطولها قصة «ورود ليلى» في ست عشرة صفحة.
القاسم المشترك بين القصص جميعها ثيمة «الخوف»، الذي تعددت أسبابه ويبقى واحدا، وإن كان يظهر في بعض القصص مباشرة، وفي أخرى مواربة، وقد شرحت الكاتبة سبب اختيارها لهذا الموضوع قائلة: «تتعدد المخاوف التي تحاصرنا، وقد تتجسد في الخوف من فكرة، كثيرة هي المخاوف التي تمر على حياتنا، ليس هناك من مشاعر تحرك هذه البشرية مثل الخوف». وإذا تجاوزنا إهداء المجموعة القصصية إلى أمها «سيدة الحكي والحكايات»، وهو مفتاح يقودنا إلى مصدر إلهام الكاتبة الأول، نجد مقطعا اختارته عائشة سلطان، لنجيب محفوظ من رواية «أولاد حارتنا» يعتبر مفتاحا آخر للمجموعة، يجعل من الخوف معادلا موضوعيا للموت «الموت الذي يقتل الحياة بالخوف حتى قبل أن يجيء، لو رُدَّ إلى الحياة لصاح بكل رجل: لا تخف! الخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة».
وتتراوح المخاوف في القصص من خوف الفتاة الصغيرة من الإعصار، في قصة «طعم البرتقال»، إلى خوف الأهالي من خطف أطفالهم واغتصابهم في قصة «ورود ليلى»، إلى أن يصل ذروته في «خوف بارد» القصة التي استُمد منها عنوان المجموعة القصصية، ففي هذه القصة القصيرة ذات الصفحات الست، تتكرر لفظة الخوف بمشتقاتها 15 مرة، ففي فقرة قصيرة فقط تكررت 4 مرات: «يهمس لي ببطء كي لا يثير الانتباه: لا تخافي لا شيء يدعو للخوف، فأقول له: لست خائفة، لكن ما أدراه بما يخيفني أصلا؟». ولا يهم سبب الخوف فهو كائن متجسد ثقيل الحضور ولو في قاعة سينما لمشاهدة فيلم مثلما هو مسرح القصة.

في المجموعة القصصية تتقاطع مواضيع أخرى مع الخوف، فكل قصة تحمل همها الخاص، ولا تتشارك مع بقية القصص لا في الأشخاص، ولا في فكرتها العامة، ومن المواضيع التي عالجتها عائشة سلطان في مجموعتها «خوف بارد» قضية المفقودين، في قصة «البحيرة»، وهو موضوع راهن تعاني منه بلدان عدة عربية مثل سوريا ولبنان، وقد اختصرته الكاتبة في بحيرةٍ الداخلُ فيها مفقود والخارج منها مولود، وإن كان لا يخرج منها أحد، وكيف أن هذا الجرح الغائر لا يحمله إلا أهل المفقود، الذين لا تندمل جراحهم إلا إذا دفنوا أحبتهم، وإن كان ما تبقى منهم شظية عظم. كما عالجت موضوع التعايش مع كارثة حدثت للإنسان في قصة «طعم البرتقال»، هل يدير ظهره ويستمر في الحياة كأن شيئا لم يحدث؟ أم يبقى أسير مصيبته يجترها فتسمم له حياته؟ إضافة إلى مواضيع أخرى كخطف الأطفال والتحايل على القانون في قصة «الوصية»، وصراع الأجيال في قصة «كوكب الجدات»، ويقيني أن قسما كبيرا استمدته الكاتبة من محيطها، ولم تُخفِ عائشة سلطان ذلك، بل صرّحت بـ»أن هذه المجموعة القصصية بمثابة استحضار للذاكرة، حيث إنها شخص محكوم بذاكرته ويعتز بها، وأن فقدان الذاكرة أو التراكم الحياتي هو نهاية الإنسان». ومع هذا نادرا ما يبرز المكان في قصص الكاتبة، وإن تبدّت ملامحه، ما عدا مرتين ظهر فيهما المكان معيّنا، كما في قصة «العطر» حيث تدور أحداثها في جامعة الإمارات، وفي قصة «حاجي ميت» ومسرحها مقبرة في مدينة دبي، ما يصلح لإسقاط مواضيع بقية القصص على أي مكان آخر.

تتكرر بعض الأفكار عند عائشة سلطان في أكثر من قصة، مثل لجوء أبطالها في أحيان كثيرة إلى الغيبيات والحلول الخرافية، فهي عندهم يقينية أكثر من العلم نفسه، ففي قصة «طعم البرتقال» تقع الكارثة ويدهم الإعصار القرية، ولا يُبقي أحداً سوى راوية القصة، حدث ذلك بكل بساطة لأن كل الأهالي صدّقوا «تنبؤات الجدات والأمهات ولم يعبؤوا بقراءات الأجهزة والخرائط، حتى اقتلع الإعصار القرية عن خريطة المكان، وقذف بها في وديان العدم». وكذلك الأمر في قصة «ورود ليلى» فعندما يخيم الضباب في الشتاء لعدة أيام، أو لا تمطر السماء لمواسم متتالية، ولا تظهر الشمس لأيام، يعتقد الأهالي أن هناك من ارتكب معصية، وعليه أن يضع خرقة على فمه يتمتم فيها ما اقترفه، ويذهب وحده إلى مكان بعيد مخصص لذلك فيفتح الخرقة، كأنما يبدد خطيئته في الهواء، وهكذا يتخلص من خطيئته، دون أن يفتضح أو يدفع ثمن غلطه، وهي ممارسات تكثر حين تُعرض المجتمعات المتخلفة عن الأخذ بأسباب العلم، وتتخذ من الخرافة المتلبسة بالدين منهج حياة. وكتفصيل صغير ضمن هذا السياق استوقفتني فكرة المرآة وموقف الجدات منها، وقد تكرر الحديث عنها مرتين في قصتين مختلفتين، وبكثير من التطابق، ففي قصة «خوف بارد» ورد، «منعت جدتي أبي من أن يضع مرآة في غرفتنا، قالت له: يكفيها السهر والقراءة حتى مطلع الفجر، المرايا تفسد عقول البنات»، وهو ما نجده في قصة «كوكب الجدات»: «سمعتني جدتي أطلب من أمي أن تشتري لي مرآة كبيرة أضعها في غرفتي، أريد أن أتأمل شعري وثيابي.. لكن منعته جدتي من ذلك، قالت له: تكفيها الكتب والقراءة حتى الفجر، المرايا تخرب عقول البنات». وهو تصرف يلخص الفارق بين تفكير جيل تقليدي نشأ على فطرة العيب وسيطرة المحرمات، وجيل وضعت وسائل التواصل الاجتماعي العالم بين يديه بخيره وشره.

أغلب قصص المجموعة مروية على لسان امرأة (8 من 14 قصة) وخمس قصص على لسان راوٍ عليم، وواحدة بلسان صحافي (قصة البحيرة)، وقد تنوعت أيضا الأساليب السردية من الواقعية إلى الغرائبية وحتى السريالية، كما في «خبز» وبعض القصص لا تسلم مفاتيحها بسهولة من القراءة الأولى مثل قصة «جريمة» أو «سر الغيمة البيضاء» وإن كانت شابت بعض القصص نزعة تقريرية مباشرة، لعل لاشتغال عائشة سلطان بالصحافة سنوات فاقت ربع القرن، دورا في ذلك، كهذه الفقرة «معظمنا يرى عاداته وتصرفاته المتكررة جزءا منه، من شخصيته وصورته التي يراه الناس عليها، لذلك يتمسك بها حتى لا يفقد شيئا من تلك الصورة التي تكونت عبر الأيام والتجارب»، كما نجد قصة واحدة اعتمدت على الحوار في بنائها، ونهايتها المفاجأة تكاد تتطابق مع فيلم شهير بعنوان «Primal Fear» (الخوف البدائي) من بطولة ريتشارد غير في دور محامٍ يدافع عن شاب مصاب بانفصام الشخصية، ارتكب جريمة قتل، لتصدمنا النهاية تماما مثل قصة الوصية، وهذه النهاية المفاجئة نجدها أيضا في قصة «وجوه».

أما أطول قصص المجموعة «ورود ليلى» فنهايتها مختلفة غير أنها ليست صادمة، حيث تفترض الكاتبة من خلال إحدى الشخصيات، أن ليلى الطفلة المختطفة المغتصبة المقتولة لو عادت إلى الحياة على هيئة أخرى فلن تكون إلا على هيئة زهرة. ورغم بعض الجمل التي تحتاج من الكاتبة إلى إعادة نظر كقولها: «يحنون إليها ويشعرون بكثير من الحنين تجاهها»، أو «نسيت أن أقول لكم إني أعيش وحيدة في المنزل»، فإن لغة عائشة سلطان في «خوف بارد» سلسة لا تعقيد فيها، تتخللها جمَل تصلح للاقتباس مثل قولها «الوقت وعاء هائل يمتلئ بأسرع مما نتصور، ثم يصير كل شيء هباء أو أرضا هائلة بذاكرة ملساء»، أو «التخلص من فكرة الوقت يجعلك خفيفا ككائن فقد كل وزنه». مع وجود بعض المواقف الساخرة التي تطل برأسها على استحياء مثل قصة رئيس التحرير، الذي يحكي عن أحلامه لشخص يجيد الاستماع وفي الأخير يكتشف أنه أصم.
ولأن «الناس تنسى بسرعة لأن الحياة تتكفل بصنع حكايات جديدة كل لحظة»، كما كتبت عائشة سلطان في قصة «البحيرة»، نأمل أن نرى أخوات لـ»خوف بارد» تحفظ لنا الحكايات من النسيان، وتكشف لنا وجه قاصّة سرقتها الصحافة.

شاعرة وإعلامية من البحرين



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد