صاحب النقب .. مالئ الدنيا وشاغل الناس

mainThumb

01-09-2025 10:48 PM

في تاريخنا محطات تصنعها الاقدار وتبقى شاهدة على معنى الاخلاص والبطولة.
كان هناك صاحب النقب، رجل مجهول الاسم، عظيم الفعل، كبير الاثر. لم يرد من الدنيا ذكرا ولا تصفيقا ولا خلودا في ذاكرة البشر، بل ارتضى ان يكون مجهولا في الارض معلوما في السماء. نزل ليلا ينقب جدار حصن من حصون الروم، يواجه الموت وحيدا، مؤمنا ان وراء الفتحة التي يحدثها سيكون النصر، وان خلف الظلام الممتد ينتظره نور الجنة. ولما تحقق النصر ونادى قائد الجيش: "اين صاحب النقب لنكرمه؟" لم يجب احد، فقد آثر البطل ان لا يعرف اسمه ليبقى مجهولا عند الناس، خالدا في جنان الله.
وفي الجانب الاخر من ذاكرتنا، كان هناك شاعر العرب الاكبر واعلامي زمانه، ابو الطيب المتنبي، الذي وصف بانه "مالئ الدنيا وشاغل الناس". ملأها بكلماته واشعلها بفكره وفخاره، وعبأ بكلماته جيوشا واطاح باشعاره عروشا حتى ظل صوته حيا بعد قرون من رحيله.

واليوم بين الفصاحة والاخلاص، تجتمع الرمزية كلها في رجل واحد… في ابي عبيدة، الناطق باسم كتائب القسام.
ذلك الملثم الذي لا نعرف ملامحه، لكننا نعرف صوته.
ذلك الغائب عن وجوه الناس، الحاضر في قلوب الملايين.
ذلك الذي لم يخف ملامحه خوفا من العدو، بل اخفاها اخلاصا لله، زاهدا في اضواء الشهرة، طالبا وجه الله وحده. ذلك الفصيح المفوه ذو الكاريزما الطاغية على كل من سواه.

ابو عبيدة صار صاحب النقب الجديد؛ لم ينقب في جدار من حجر، بل نقب في حصون الوهن التي بنتها عقود الهزائم والخذلان. نقب في اسوار الخوف التي احاطت بالامة، فشق فيها ثغرة للكرامة. كل ظهور له ليس مجرد بيان عسكري، ولا ظهورا اعلاميا، بل معول ينقض جدارا من جدران الصمت، وشعلة تذيب جليد الخذلان.

وفي الوقت نفسه، صار مالئ الدنيا وشاغل الناس؛ فما من بيان يخرج من فمه الا ويتناقله العالم شرقا وغربا. العدو قبل الصديق يترقب، الخصم قبل الحليف يصغي. بات الاحتلال يعد انفاسه، ويرتجف عند كلماته، حتى انهم اعلنوا استشهاده ثلاث مرات، ثم عادوا ليجعلوا اسمه هاجسا يتكرر على السنة قادتهم من ما يسمى رئيس وزرائهم الى وزير دفاع عصابتهم وقائد اركانهم، تلك الاركان التي زلزلها ابو عبيدة واذل كبرياءها.

اما نحن، فقد صارت بياناته لنا مواسم للعزة، وصوته بلسم للجراح، وكلماته حروفا نخطها في القلوب قبل الاوراق.
ان الشهيد حين يرتقي لا "ينام بسلام" كما قرأت في تعليقات على خبر استشهاده المزعوم… لا، انه لا ينام، بل لانه يكون حيا يرزق في جنات الخلد، حيث النعيم المقيم، بعيدا عن ظلم الظالمين وتآمر المتآمرين. هناك، حيث لا طائرات فوق الراس ولا حصار يطوق الاعناق. هناك حيث لا صفقات خيانة ولا مؤتمرات تآمر. هناك حيث وعد الله، حيث يقول: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا، بل احياء عند ربهم يرزقون."

وابو عبيدة، ان ارتقى شهيدا، فلن يكون رحيله الا ميلادا جديدا. لن يكون غيابه الا حضورا اوسع. سيبقى صوته معنا، وستبقى عبارته التي ختم بها كل خطاباته دستورا لنا:
"وانه لجهاد… نصر او استشهاد."

ابو عبيدة… يا من وحدت الامة خلف لثامك، يا من جعلت من صوتك قلعة للكرامة، يا من صرت مرآة تعكس وجوهنا؛ وجه المقاومة، وجه الامل، وجه الكبرياء. ان بقيت بيننا فانت نبضنا، وان استشهدت فانت نورنا وهذا مقامك الذي لا يقبل اقل من الجنان أو النصر

نم، او لا تنم… فالجنة اوسع من كل ارض، والنعيم عند الله ابقى من كل متاع، وصوتك عندنا باق ما بقيت قلوب تنبض بالكرامة، وما بقي في الامة من يرفض الذل ويستعذب الشهادة.

وانه لجهاد… نصر او استشهاد.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد