فلسفة الحدود:

mainThumb

03-09-2025 10:44 AM

«الحدود»، ربما هي أكثر المفردات التي ستتصدر المشهد خلال الفترة المقبلة، ففي الوقت الذي يعاد تشكيلها سياسيا، يصر واقع الاستهلاك على اسقاطها أو هكذا يشبه لمتابع وسائل التواصل حول آخر إصدارات دور الأزياء الفاخرة، وحتى اختفاء الرجل البرتقالي. هكذا يجد المتابع نفسه أمام جدل الخديعة التي أتتها دار «لوي فويتون» بمنتجات تجميلها التي لا تعكس سعرها، حسب جحافل المؤثرين (يكفي ثمن صباع روج منها لإطعام قرية فقيرة)، أما الرجل البرتقالي فقد صار مادة للتندر عربيا، إذ قارن كثر بين شائعات اختفائه وتعاطي الأمريكيين الواسع معها والشائعات التي كانت من نصيب الرئيس الجزائري من أيام قليلة وتفاعل معها كثر: «لا فرق بيننا وبين الأمريكان»… حدود أخرى تقع.

شيوخ… شيوخ

لا حديث في تونس هذه الأيام سوى عن الشيوخ. الحقيقة أن هذه الفئة التي يختلف حولها اللسان الشعبي، كما في كامل المنطقة العربية، بين من يستكثر عليها حب حياة محتمل، ومن يستنكر حظوظها، خصوصا وأن سن الستين، الذي كان حتى وقت قريب مرادفا للوهن والعجز صار فسحة للأمل بالنسبة لفئة واسعة، وبداية حياة جديدة، لم تشرع لها كتب الأولين.
تفاعل التونسيون بشكل واسع خلال الأيام الأخيرة مع خبر سن وزارة الصحة لتخصص طبي جديد وهو «طب الشيخوخة» بين استحسان واستهجان. البعض وجد في الأمر قرارا تقدميا لبناء بلاد تحترم كل مواطنيها، دون استثناء، كثر علقوا بحق الفئات الأكبر عمرا في حياة ملائمة، وطبابة مناسبة.
على النقيض كان القرار مادة لتندر فئات واسعة: «سيبنون المصحات على الطريق بين المساجد والمقابر»، آخرون استنكروا قرار الوزارة ووجدوا فيه نفاقا: «مسؤولوكم يؤكدون ألا حق في الاستطباب لمن تجاوز الثمانين، من نصدق؟»، في حين ذهب البعض لانتقاد نزيف الكفاءات في القطاع: «فرنسا هي التي بحاجة لهذا التخصص، وأنتم تلاميذ طيعون، تحضرون لها الدفعات المناسبة».
مأساة الشيخ حسن الطرابلسي شغلت التوانسة كثيرا، هم الذين تفاعلوا بقوة مع مشاهد سقوطه تحت عجلات ترامواي العاصمة، بعد تدافع شديد لم يرحم وهن الشيخ. استنكر رواد مواقع التواصل الاجتماعي التونسيون التعامل الرسمي مع قضية العجوز الذي عوض أن تتوجه فيه الجهات المعنية بتبرير وكشف لملابسات وقوعه تحت عجلات ما يسميه التونسيون «ميترو»، اتهمته بعض الجهات بأنه مجرد متشرد (وكأن المتشرد لا يملك حقا في الحياة الكريمة) ما اضطر عائلة الضحية للخروج والتأكيد بأن له عائلة وأولادا يصرون على فتح تحقيق في أسباب ما وقع لوالدهم، وشاركوا صورا له من داخل المستشفى. الحقيقة أنها ليست القضية الأولى التي يروح ضحيتها شيخ مسن في البلد، فمنذ أشهر قليلة تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع أخبار اعتداء جسيم تعرض له شيخ على يد مجموعة شباب في محطة نقل عام أيضا. أخبار صحة الطرابلسي الشيخ وإن أثارت طائفة من المتفاعلين التونسيين فلم تفعل بقدر ما فعلت قضية سيدة ملاسين، إذ وثقت عدسات كثيرة حوادث متكررة لاعتداء سيدة متقدمة في العمر على القطط. هواية السيدة على ما يبدو في حرق القطط بالبنزين، أثارت زوبعة اضطرت السلطات للتدخل وإلقاء القبض عليها، هي التي أثارت التساؤلات والاستغراب والاستهجان. «إنها مجنونة»، «لا بد أنها تعاني اضطرابا نفسيا، اشعال النار يعبر غالبا عن اضطراب نفسي»، «كم من المجانين يعيشون بيننا؟».

صيف المنطق الأخير

في روايته الأخيرة التي نشرت بعد وفاته، قص الكاتب والصحافي الجزائري الطاهر جاووت يوميات بلد يحرقه الإسلاميون. الرواية لم تكن نبوءة بقدر ما كانت توثيقا لليومي صيف 1993، أدهش الكاتب، الذي لو قدر له أن يعيش صيف السنة لبدا له كل شيء عاديا (عدا الموت الجزافي، والانفلات الأمني ولله الحمد). أستاذ – إمام يطلب من مريديه أن يعودوا بعد الدرس الديني ليخبرهم أين تباع الجواري في إفريقيا، التعليقات المستنكرة للحفلات المختلطة، والجدل حول حرمة الميت آخرها.
لا شيء يشغل «السوشيال ميديا» في الجزائر منذ يومين غير مقطع مصور لممرضة في مستشفى عمومي، أرادت «كسب الدين والدنيا» وهي تقص حكاية مريض جاء لقسم الاستعجالات شاكيا أزمة قلبية، قبل أن يتوفى محاطا بالطواقم الطبية، التي بحسبها تأثرت لموته. والموعظة هي اختصاص جزائري، يكتسبها الجزائري صغيرا في المدرسة، وتعيش معه طويلا حتى تجري مجرى الدم، بل تطبع حمضه النووي. الشابة التي تعودت أن تصور مقاطع تحكي فيها يومياتها كممرضة لم تكن تتوقع أن توصلها صور تسجية جثمان إلى المساءلة القانونية. ضجت مواقع التواصل الاجتماعي ولم تهدأ، وتحول الجميع إلى مختص في قانون العمل، وصاحب رأي في المهن الطبية. «لقد أفشت السر المهني»، «اعتدت على حرمة ميت»، « إنه اعتداء على الحياة الخاصة»، «من سمح لها بالتصوير في هكذا موقف؟»، «وجبت معاقبتها». لم تهدأ الجموع إلا بعد أن أعلنت الوزارة الوصية عن اتخاذها للإجراءات الضرورية.
المراقب «لتطور المحرقة» سيلحظ اختلافا بين آراء المتفاعلين خلال الساعات الأولى والمتفاعلين في اليوم الثاني. أكد المتأنون أن الفيديو لم يحمل أي إساءة ولم تدنس حرمة الرجل، بل أن الشابة أرادت أن تقدمه كمثال لإنسان صالح (بمفهوم التدين الاجتماعي)، البعض دافع عن الممرضة: «لم تقم بفعل مسيء، ويبدو أنها كانت تحت تأثير عواطفها، لم تفعل ما يستحق كل هذا اللعن»، «لما كل هذا التهويل، حياة ومهنة الشابة في خطر»، «علينا أن نهدأ قليلا، إنها لعنة «السوشيل ميديا» في بلادنا، لما كل هذا اللغط، نرى يوميا ما هو أسوأ عبر التواصل الاجتماعي».
الموقف أسال لعاب أكثر الذكوريين سذاجة وسطحية: «تمهلوا، ودققوا، فتاة تسجي ميتا، دون أن يرف لها جفن، ما كل هذه القوة؟ لو كانت رجلا لتأثرت، الأنوثة في خطر في بلادنا». لا تبدو الأنوثة أكثر ما في خطر اليوم بقدر ما يجب أن تثيره وسائل التواصل اهتمام وبحث سوسيولوجي، ونفسي- اجتماعي، والكثير من «الدروس والمواعظ» في المواطنة، عوض إبداء حسن النوايا وتفتيشها.

٭ كاتبة من الجزائر



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد