جلسة عمل تتحول إلى تهمة أخلاقية

mainThumb

05-09-2025 11:03 AM

في نهاية الفيلم السينمائي المصري الشهير «ملف في الآداب»، يُصدِر القاضي حكمًا ببراءة الموقوفين والموقوفات في قضية الفساد الأخلاقي. لكن «مديحة»، إحدى شخصيات الفيلم، تصرخ من وراء قضبان قفص الاتهام قائلة: «حُكم البراءة هذا يُبعد عنّي سجن الحكومة، لكنه لا يُبعد عنّي السجن الموجود في الخارج. سجن الحكومة له أول وآخر. لكن سجن الناس لا أوّل له ولا آخر. الشارع سيبقى سجنًا، الأوتوبيس سيبقى سجنًا، حكم البراءة لن يُرجعني مديحة الشريفة».
تذكّر بعض المغاربة هذا الفيلم الذي يحمل توقيع السيناريست وحيد حامد والمخرج عاطف الطيب، وهم يتابعون قصة واقعية مشابهة، قررت فيها النيابة العامة المغربية حفظ الملف وإسقاط المتابعة في قضية «مؤثّرة» وممثلة شابة لانعدام وسائل الإثبات.
القاسم المشترك بين الفيلم والواقعة الأخيرة أن المرأة قد تجد نفسها أحيانا ضحية ملف قضائي غير مكتمل العناصر، فتلاحقها تهمة أخلاقية، بدون اعتماد قرينة البراءة، أو التأكد من صحة الاتهامات.
العبرة من وراء فيلم «ملف في الآداب» أنه حتى لو برّأت المحكمة شخصًا ما، فإن المجتمع يظلّ يلاحقه بالأحكام المسبقة، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بامرأة، مما يجعله يعيش في دائرة اتهام مستمرة.
الفيلم الذي يعود إنتاجه إلى سنة 1986، تتوزع أدوار بطولته بين عدد من نجوم السينما المصرية: فريد شوقي، مديحة كامل، صلاح السعدني، أحمد بدير، وحيد سيف، توفيق الدقن، وغيرهم.
قصة الفيلم متشابكة الأحداث ومتعددة المشاهد، ولكن يمكن اختصارها في مفتش شرطة يلقي القبض على بضعة أشخاص (ذكورًا وإناثًا) مجتمعين حول مائدة طعام في منزل، فيُلصق بهم ظُلمًا تهمة الدعارة والفساد الأخلاقي، قبل أن تتأكد المحكمة من براءتهم… ولكن هل بإمكان البراءة أن تُعيد نقاء السمعة وصفاء السيرة، خاصة بالنسبة للفتيات بطلات الفيلم، بعدما تلطّخت في سجلاّت الأمن، وفي أخبار الصحافة، وأحاديث الناس؟
السؤال نفسه تكرر مع الواقعة الحقيقية التي حصلت للمؤثرة والممثلة غيثة عصفور التي اتُّهمت بالفساد الأخلاقي والمشاركة في الخيانة الزوجية، حين «ضُبطت» (مع التحفظ على استعمال هذا الفعل) هي وصديقتها في إحدى الشقق بمعية رجل يعمل تاجر مجوهرات، وجاء اقتحام الشقة من طرف أجهزة الأمن بناء على شكاية الزوجة التي اتهمت بَعلها بالخيانة. غير أن التحريات القضائية خلصت إلى عدم وجود قرائن تثبت التهمة على الموقوفين، فأخلت سبيلهم. والحال، كما قال دفاع المؤثرة والممثلة، أن الأمر كان يتعلق بجلسة عمل مع تاجر المجوهرات.
وإذا كانت النيابة العامة قررت حفظ ملف المؤثرة والممثلة المذكورة وإسقاط المتابعة القضائية لانعدام الأدلة، فإن الأثر النفسي للواقعة على المعنية بالأمر ـ كما تداولت مصادر عدة ـ ظلّ ملازما لها، سيما بسبب حملة التشهير التي سلّطت عليها من طرف بعض المواقع الإلكترونية والحسابات على منصات التواصل الاجتماعي. فالمحكمة برّأت المتهمة ومن معها، «لكن محاكمة الشارع كانت لها كلمة أخرى، لقد أدانت الشابة، وحكمت عليها بقية حياتها تحت رعاية إعلام التشهير وآلة التدمير»، كما كتب أحد الصحافيين على «الفيسبوك».

جريمة قتل على المباشر!

كثيرة هي الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية الغربية التي تتناول ضمن قالب الخيال العلمي موضوع الاختراعات التكنولوجية، حينما تنقلب على مبتكرها الإنسان. وفي هذا الصدد، يندرج المسلسل البريطاني «المرآة السوداء» الذي اشتهر خلال السنوات الأخيرة؛ فالتكنولوجيا الحديثة إذا أُسيء استخدامها أو طغت على القيم الإنسانية، يمكن أن تتحول من أداة لخدمة الإنسان إلى مصدر لتهديد حريته وكرامته وحياته اليومية.
ذلك ما يحصل حاليا مع منصات التواصل الاجتماعي التي تتسبب في كوارث جمّة لبني البشر بسبب سوء استخدامها، وجعلها مجرد وسيلة للإثارة والشهرة والكسب المادي، عوض أن تكون قنوات لتعزيز التواصل وتبادل الأفكار والمعارف والانفتاح الإيجابي على العالم والناس وتعزيز قيم المحبة والسلام والعيش المشترك.
أفظع مثال على ذلك ما حدث لمؤثّر فرنسي اشتهر عبر شبكات التواصل الاجتماعي بلقب «جان بورمانوف» أو «جي بي»، واسمه الحقيقي رافائيل غرافين، صنّفه موقع فضائية «الجزيرة» من أبرز صانعي المحتوى إثارة للجدل عبر الإنترنت، إذ اشتُهر بتحدياته «المتطرفة» التي جذبت أكثر من مليون متابع، خاصة على منصة البث المباشر «كيك».
لقد بُثّت مقاطع صادمة تُظهر تعرّضه للإساءة والعنف بشكل مباشر أمام متابعيه لمدة عشرة أيام متواصلة (نحو 300 ساعة) تخللتها مشاهد عنف وحرمان قاسٍ من النوم، بالإضافة إلى تعرّضه للضرب والاختناق ورشّ الماء عليه، إلى أن توفي في منزله في قرية «كونت» القريبة من مدينة «نيس».
الخبر أورده موقع «الجزيرة»، وأضاف موقع قناة «فرانس 24» تفاصيل ومعلومات أخرى، من بينها أن عدة جهات رسمية فرنسية اهتمت بالحادث القاسي، وهي: النيابة العامة، وزيرة الإعلام الرقمي، هيئة تنظيم الاتصالات السمعية والبصرية والرقمية. ولم ينس الموقع التذكير بأن «كيك» منصة أسترالية مختصة في خدمة البث المباشر، تتميز باعتمادها قواعد إشراف «أكثر مرونة». «أكثر مرونة» يعني ـ والاستنتاج من عندنا ـ أنها قد تغضّ الطرف عن بعض التجاوزات التي تمسّ بالقيم الإنسانية والكرامة البشرية، في سبيل استقطاب العديد من المتابعين وضخّ حساباتها بالمزيد من الدولارات.
إنها صورة تختزل حقيقة العالم المعاصر في ظل هيمنة مطامع غربية «متوحشة» تعمل على «تَـشْـيِـيء» الإنسان، وتختزله في مجرد مطية لتراكم الأرباح، عبر إشعال الحروب وتجارة الأسلحة، وبث الأمراض والأوبئة، وتغذية العقلية الاستهلاكية في كل شيء، والسيطرة على العقول بعوامل إلهاء متعددة، وإغراء الناس بإمكانية تحقيق الثراء الفاحش بمجرد بثّ مضامين تافهة عبر منصات التواصل الاجتماعي.

باختصار

من خلال متابعة العديد من الحسابات العربية على منصات التواصل الاجتماعي، يظهر «مثقفون» بلا مبدأ أو قضية إنسانية، ينساقون فقط نحو المتع الحسية، والبحث عن الضحك الرخيص وإضحاك الناس عبره. أمّا ما يجري في العالم من مآس، وفي مقدمتها مأساة أهالي غزة، فلا تهمهم في شيء! الصمت تواطؤ وخذلان وموت للضمير.
ـ في بعض المدن المغربية، صار لكل شخص أو لمجموعة صغيرة مهرجان مسرحي تقريبا! لقد عاد مفهوم القبيلة إلى المسرح، لدرجة أن المسرحيين لا يشاهدون عروض بعضهم، ولا يحضرون مهرجاناتهم. وبالتالي، يظلّ الحضور مقتصرًا على عدد قليل جدا من الجمهور. فهل الهدف من وراء تنظيم تلك المهرجانات الصغيرة يبقى فقط الحصول على الدعم المالي من وزارة الثقافة وكذا من المجالس البلدية؟

كاتب من المغرب



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد