المصعد يتوقف بأوروبا

mainThumb

09-09-2025 10:01 AM

ثمانون عاماً مضت، كانت أوروبا تعتقد أنها دخلت في استراحة محارب، ذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي استمرت 6 سنوات عجاف، لكنها فوجئت بالنيران تمسك بأطرافها في المسرح الأوكراني، لتواجه حرباً كبرى تدور على أراضيها، وهي التي ظنت أن آخر الحروب هي الحرب العظمى، واستراحت لمشروع مارشال الأميركي الذي بنى اقتصاد أوروبا وغطاها بمظلة عسكرية عبر «حلف الناتو». سارت أوروبا شريكة لأميركا عبر الأطلسي، في تحالف كاثوليكي لا ينفصم.

اليوم تبدلت الأحوال؛ وقعت حرب على أراضيها بين أوكرانيا الحليف، وروسيا الخصم، واعتمدت أوروبا على قوة أميركا العسكرية والاقتصادية في هذه المعركة، بالفعل كانت واشنطن في عصر الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تصطف إلى جوار أوروبا، وتتخذ القرارات نفسها. اطمأنت أوروبا أن الحليف الأميركي يقف وراءها، وتعاملت مع هذا المشهد كأنه سحابة صيف وستنتهي، لكن السحاب بات ضباباً شتائياً قاسياً؛ فالرئيس الأميركي دونالد ترمب ليس هو جو بايدن؛ واشنطن ترمب تنظر إلى مصالحها الاستراتيجية؛ تبحث عن المعادن النادرة، وإيقاف الحروب، والبحث عن جائزة «نوبل للسلام»، وقد قال ترمب إنه يكره الحروب، ولو كان موجوداً أثناء الحرب الروسية - الأوكرانية لَما اندلعت.

أوروبا صاحبة الحداثة والتنوير، وبالطبع صاحبة اليد الطولى في الانتشار على المسرح العالمي، تجد نفسها حائرة ومحاصرة؛ فالولايات المتحدة عاملتها كأي منطقة أخرى في مسألة الرسوم الجمركية، وفرضت عليها 5 في المائة من ميزانياتها القومية لصالح «حلف الناتو»، وطالتها قبضة واشنطن في المجال الاقتصادي، والعسكري، والتجاري، وفرضت عليها واشنطن أن تكون التجارة عبر المحيط شبه احتكار بين واشنطن والقارة العجوز، والبعض رأى أن توقيع الاتفاق التجاري كان بمثابة احتكار لمستقبل أوروبا.

اللافت للنظر أن أوروبا حاولت أن تستقل عبر منطقة «اليورو» أو عبر تكوين جيش أوروبي موحد للحماية، لكنها وجدت نفسها بسبب أصداء الحرب في أوكرانيا محاصرة، حائرة، تاهت بوصلتها بين تخلي واشنطن، وكابوس الدب الروسي. اللحظة هنا لم تكن في حسابات القارة العجوز؛ اختلطت الأوراق، ولم تكن لديها فلسفة جاهزة للتعامل مع الطارئ المفاجئ.

أوروبا في هذا المشهد باتت كمن يقف به المصعد قبل أن يصل إلى الطابق المنشود؛ فقد كانت تريد أن تصل باتحادها إلى قوة اقتصادية هائلة، وقوة عسكرية مهيبة، وتستعيد نفوذها الذي فقدته بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وطالما سعى زعماؤها الكبار أمثال شارل ديغول، وفيلي برانت، وهيلمت كول، وشيراك، وميتران، وشرودر، إلى الفطام الأوروبي من القوة الأميركية المفاجئة على المسرح الدولي.

توحدت أوروبا بالفعل، حتى لو خرجت منها بريطانيا، لكنها ظلت قوة سياسية واقتصادية وعسكرية، إلا أنها كانت شريكة لأميركا في كل الأحداث التي جرت منذ ثمانية عقود، سواء الشراكة في الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي، أو تفكيك يوغسلافيا، أو حصار روسيا والصين، أو تحالف ما يسمى الحرب العالمية على الإرهاب، ومع كل ذلك كانت لديها طموحات للاستقلال الذي لم يحدث قَطّ، لتجد نفسها مرة أخرى في حاجة إلى معركة «نورماندي جديدة»، لتحريرها من الحيرة التي بدت مزمنة، وهي بالطبع لا تستطيع أن تغامر في عصر آخر بالاندفاع إلى أراضي العالم، كما حدث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، عندما سيطرت وهيمنت منفردة على الخرائط العالمية.

في قلب المشهد الأوروبي الحائر، ثمة سؤال يفرض نفسه بقوة: إلى أين يتجه المصعد بالقارة العجوز؟ هل يواصل توقفه، أو أنه سيتراجع بقوة، أو أنه مجرد عارض وسرعان ما يعود للصعود بالقارة العجوز؟ وهل يمكن أن نتخيل السياسة الدولية من دون عقلها الأوروبي الأول في عصر ما بعد التنوير والحداثة؟

الحقيقة أن التجربة الأوروبية عبر التاريخ تجيب عن علامات الاستفهام هذه؛ فأوروبا تحاربت معاً، واستدعت من خارجها من يأخذ بيدها في حربين عالميتين، حين جاءت أميركا من خارج اليابسة الأوروبية، وانتصرت لطرف فيها، وأوقفت الحرب، ووضعت لها ميثاقاً اقتصادياً بعد نهاية المقتلة، وبالتالي صارت أميركا هي الرأس لأوروبا.

وهنا نعتقد أن ذلك الفعل الأميركي كان خصماً من الدور الأوروبي؛ فما نراه حالياً من توقف للمصعد الأوروبي طبيعي ومكرر، برغم المحاولات الطموحة لبعض نخبتها بالانفكاك من أسر الولايات المتحدة، لكن أوروبا في النهاية وجدت نفسها بين غضب الدب الروسي، وابتعاد النسر الأميركي، عاجزة عن مواكبة ما يدور على المسرح الدولي من تغيرات بنيوية عميقة؛ فمثلاً على المستوى الصناعي، فإن الصين ودولاً أخرى صارت تتفوق على الصناعة الأوروبية، وتتحكم فيها، بل إن الصين بسلعة واحدة، هي «المغناطيس»، تستطيع إيقاف عجلة التصنيع في أوروبا، تلك القارة التي صاغت التنوير والحداثة، فإذا بها تقف الآن داخل مصعد لا يهبط ولا يصعد، في انتظار قائد أوروبي من خارج الصندوق.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد