فلسطين وإسرائيل: تشابه وتنافر

mainThumb

12-09-2025 06:56 AM

الدول الغربية الرائدة، فرنسا وإنكلترا وكندا، تلحق بكل من إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا، بقرار الاعتراف بدولة فلسطين «المُتخيّلة». ومع ذلك، من المنتظر رؤية توالي الاعترافات الغربية، دولة تلو الأخرى. للوهلة الأولى، بالنسبة للكثيرين منا في العالم العربي، ينم قرار الاعتراف، عن جبن ومهانة في آن واحد، فبعد ثمانين عاما من النضال الشاق من أجل إقامة الدولة، الذي تحول تدريجيا إلى صراع من أجل الحياة نفسها، تفوح من هذه الخطوة رائحة سباق غربي يائس، لإنقاذ سمعته المحطمة، واستعادة ولو جزء ضئيل من الأسس الأخلاقية والقانونية الهائلة، التي تنازل عنها حيال المذبحة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة.
هذه الخطوة تبدو أيضا محاولة يائسة، لإضفاء مظهر مألوف على لحظة غير مألوفة بشكل مرعب، ففي ظل الإبادة والتطهير العرقي في غزة والضفة الغربية، إن لم يتم طرح حلّ الدولتين – الميت منذ زمن طويل – ما الذي يمكن عمله إذن؟
لكن تأملوا هذا الواقع: هناك ذعر وغضب حقيقيان في إسرائيل والولايات المتحدة إزاء ما نعدّه بادرة مفلسة، إذ أنه فور إعلان تلك الدول الأوروبية نيتها الاعتراف بدولة فلسطينية، منعت الولايات المتحدة الأمريكية منح تأشيرات للمسؤولين الفلسطينيين، لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول /سبتمبر الحالي، ثم علّقت إصدار التأشيرات لجميع حاملي جوازات السفر الفلسطينية، وأعقبت ذلك بفرض عقوبات على ثلاث منظمات حقوقية فلسطينية، كانت قد قدمت التماسات إلى المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم الإبادة الإسرائيلية، وكعادتها، بثّت إسرائيل سمومها بالحديث عن معاداة السامية الأوروبية، متهمة حلفاءها بمكافأة الإرهاب.
اللافت هنا هو هذا التناقض الذي يلاحق الصراع التاريخي حول فلسطين: فإسرائيل الدولة اليهودية القوية المتغطرسة، ترتعب من دولة فلسطينية لا تملك، حتى في أضعف صورها، أي أمل في حضور جدي خارج مخيلة مؤيديها. وكما يبدو، مجرد فكرة الدولة الفلسطينية، وليس وجودها بحد ذاته، هو أمر يهدد حقيقة إسرائيل، وليس وجودها بل حقيقتها التي أرادتها القومية الصهيونية وصاغتها ومنحتها القوة: دولة إثنية – قومية، إقصائية، توسعية. ورغم بحرِ الاختلافات بين حرب 1948 على فلسطين، والحرب الجارية الآن، يبدو هذا الترابط وكأنه إعادة عرض للمشهد… تماما كما أن فكرة الدولة اليهودية – التي أيدتها تيارات دولية طاغية عقب المحرقة – هددت واقع فلسطين (في الماضي)، كذلك فإن فكرة الدولة الفلسطينية اليوم – التي تؤيدها تيارات دولية متنامية في ظل إبادة جماعية مشهودة- تهدد واقع إسرائيل في الوقت الحاضر. هل هذا مبالغة؟ ليس بالنسبة للحكومة الإسرائيلية. فمنذ نشأتها، لطالما شعرت إسرائيل بأنها مُطاردة بالقومية الفلسطينية، لكنها كانت مطمئنة لحجم العقبات الهائلة أمام الفلسطينيين، في مسعاهم نحو الدولة. أما الآن، ففي أحلك ساعاتهم، يجد الفلسطينيون ملاذاً في فضاء دولي متنامٍ، حتى وهم يُطاردون في كل مكان على الخريطة، فهذا يكشف عن تشابه آخر يَعِد بكتابة فصل حاسم جديد في قصة فلسطين وإسرائيل.
بطبيعة الحال، لن يتحقق في هذا الدومينو من الاعترافات الغربية، أي إنصاف ملموس، أو عدالة فورية للفلسطينيين، لكنْ ثمة تحرك مُلحّ إلى المستقبل. ففلسطين، التي لا وجود لها بين النهر والبحر، وإسرائيل، التي يملأ وجودها ما بينهما، هما اليوم متساويتان أمام القانون. إنه أمر سريالي، بل حتى عبثي، لكنه مع ذلك واقع صلب مثلما كانت فكرة فلسطين نفسها ثابتة لا تزول. رغم غياب الشكل الملموس والحدود، ولا استقرار لأي منهما، فإنهما معا (الشكل والحدود) يثيران الخيال ويحركانه.
بنيامين نتنياهو وعصابته، المنغمسون في سباق محموم لتطهير الأرض (من الشعب الفلسطيني)، لن يتحملوا وزر إحياء ما قاتلوا هم وآباؤهم طويلاً لمنعه. لكنهم سيضطرون إلى ذلك على أي حال، وللإنصاف، فإن إسرائيل كانت دائما في سباق مع حقائق مشاكسة، وكثير منها، من صنع يديها، وحملتها الأخيرة على فلسطين ليست استثناءً. فبينما تحاول إسرائيل أن تقطع، نهائيا، الصلة بين الفلسطيني وأرضه عبر القتل الجماعي والطرد – ومهما كان الوصف الذي يراه القانون الدولي لهذه الأفعال- فقد ينتهي بها الأمر إلى تقويض الروابط التي كانت حيوية لبقائها. ولعل أعمق هذه الروابط ذاك الذي ربط المجتمعات اليهودية في الغرب بها، وجعل منها تعبيرا أساسيا عن الإيمان.
«يقول بعضهم إن هذه نهاية الصهيونية، وليس هناك مشكلة في هذا الأمر، فلا شيء يدوم إلى الأبد»، هكذا صرّح الحاخام شاؤول مجيد أستاذ الدراسات اليهودية في كلية اللاهوت في جامعة هارفارد، في مقابلة حديثة مع صحيفة «هآرتس».
لقد بدأت رحلته، التي لم تعد اليوم معزولة، في ثمانينيات القرن الماضي، حين زار «تزمونة»، وكانت وقتها مستوطنة إسرائيلية في غزة. وما رآه ذات مساء، من نافذته حسم المسألة: «هناك حجر، هناك شجرة، هناك جبل، هناك عربي.» ويوجد هنا تشابه آخر، لا يقل أهمية عن سابقاته. فبينما تسابق الحكومة الإسرائيلية الزمن لإزالة آخر هذه الثوابت: الحجر، الشجرة، الجبل، والفلسطيني، فقد تكون بذلك تعرّض للخطر إسرائيل ذاتها التي تتوق إليها.
كاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد