من نيويورك إلى الدوحة: تنويعات 11/9 المتكاثرة

mainThumb

12-09-2025 06:58 AM

لا جديد في تشخيص إرهاب الدولة الإسرائيلي الذي يُمارس منذ عقود، سواء خلال سيرورات اغتصاب الأرض واقتلاع الفلسطينيين وتدمير آلاف القرى والعمران البشري والزرع والحجر والاقتصاد، أو في سنوات عصابات «إرغون» و«شتيرن» و«هاغاناه» و«ليحي» حيث الإرهاب مكشوف الوجه والهوية، أو على امتداد السنوات الـ77 من عمر دولة الاحتلال. التنويع، مع ذلك، يمكن أن يسبغ صفة مختلفة أو طارئة، على أنماط من إرهاب الدولة ثابتة ومتكررة، قديمة وتتقادم؛ كما في أفانين الإبادة الجماعية وجرائم حروب التدمير المنهجي والتجويع الهمجي والتهجير الوحشي التي تشهدها غزة منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
التنويعات الأحدث عهداً هي اعتياد دولة الاحتلال على انتهاك الأجواء الإقليمية وقصف أهداف شتى على نحو يُنتقى بدقة عالية (والامتنان يعود إلى التكنولوجيا الأمريكية في ميادين صناعة الأسلحة الفتاكة خصوصاً)؛ أو يُقصف عشوائياً، لأغراض تتقصد الانتهاك الأقصى والإهانة الصارخة؛ في لبنان وسوريا واليمن وإيران، عبوراً بأيّ سماء واستهانة بكلّ سيادة دولية قانونية. غير أنّ في قلب هذه التنويعات ما يشكّل، بين اعتداء وآخر، نقلة نوعية أوّلاً، لأنّ بعض طبائع العربدة تنتهي إلى عواقب متفاوتة الأثر؛ ليس على البلد المعتدى عليه أوّلاً، بل على القوة الكونية العظمى الراعية لدولة الاحتلال، والضامنة لإفلاتها من المساءلة والعقاب: الولايات المتحدة الأمريكية، ذاتها.
تلك هي حال الاعتداء الإسرائيلي الأخير على دولة قطر، وقصف أهداف سكنية ومدنية في قلب العاصمة الدوحة، لاستهداف اجتماع لقيادة «حماس» كانت على جدول أعماله دراسة آخر مقترحات الرئيس الامريكي دونالد ترامب لإبرام صفقة تبادل للرهائن والأسرى، ووقف إطلاق النار، والشروع في خطوات ما بات يُسمى «اليوم التالي» في قطاع غزّة. وأياً كان تأويل المرء للمعاني الفعلية خلف بيان البيت الأبيض الرسمي، الذي ألقته الناطقة باسم الرئاسة كارولين ليفيت، أو التأتأة التي اتسمت بها أقوال ترامب نفسه وتغريداته؛ فإنّ الإعراب عن مشاعر الحزن أو الإحباط أو عدم الارتياح إزاء الاعتداء الإسرائيلي لا تبلغ حتى سوية تحصيل الحاصل، من حيث التعاطي الأمريكي مع العربدة الإسرائيلية.
ثمة، مع ذلك، محذور معنوي أوّل لم يكترث به بنيامين نتنياهو، أو بالأحرى تقصد الدوس عليه، حين أعطى الأوامر بقصف الدوحة؛ وهو أنّ الاجتماع المستهدف كان بالفعل يدرس المقترح الأحدث عهداً من ستيف وتكوف/ ترامب؛ وبالتالي فإنّ السعي إلى التصفية الجسدية لهذا الطرف المفاوض يعني، بأقصى الصلف والاستهتار، اغتيال سيرورة التفاوض ذاتها، وليذهب الرهائن الإسرائيليون إلى الجحيم! ويعني، ليس في درجة أقلّ من العربدة، انتهاك سيادة الوسيط ذاته، الذي لم يلعب في السابق دوراً محورياً حاسماً لضمان ترتيبات تبادل ووقف إطلاق النار، فحسب؛ بل يحظى أيضاً باحترام دول العالم قاطبة، والولايات المتحدة أوّلاً، كوسيط في نزاعات عديدة انتهت إلى حلول وتوافقات واتفاقات.

وإذا شاءت المصادفة أن يتزامن العدوان الإسرائيلي على قطر مع الذكرى الـ24 لهجمات 11/9/2001 الإرهابية ضدّ برجَيْ مركز التجارة الدولية في نيويورك ومقرّ البنتاغون في أرلنغتون، فإنّ مغزى العاصمة القطرية في هذا السياق تحديداً يصعب أن يندرج في باب المصادفة: هنا، في الدوحة، وبناء على إلحاح من البيت الأبيض، عُقدت بوساطة قطرية مباحثات بين الإدارة الأمريكية والطالبان، أسفرت في 29 شباط (فبراير) 2020عن إبرام الاتفاق الشهير الذي قضى بانسحاب القوات الأمريكية والحلف الأطلسي من أفغانستان، وصادق عليها مجلس الأمن الدولي بالإجماع. ورغم أنّ ذلك الحدث النوعي الفاصل جرى خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن، وأشبعه ترامب قدحاً وذماً في حينه وخلال حملته الانتخابية الثانية؛ فإنّ قسطاً غير قليل من تأتأة الأخير حول الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة ينبثق، غالباً، من تقدير ترامب لموقع دولة قطر في هذا الميدان الدبلوماسي الحميد.
أيضاً، ليس مبدأ المصادفة وراء بلوغ دولة الاحتلال مراحل أشدّ إمعاناَ في حيازة عناصر إرهاب الدولة كافة، بل يصحّ الجزم بأنّ أنماط الإبادة الجماعية وجرائم حروب القصف والتدمير والتجويع والتهجير والحصار التي يرتكبها الاحتلال في القطاع إنما تعيد تعريف مفهوم انخراط الدول في ممارسة الإرهاب الرسمي المنهجي. وما يجوز اعتباره طرازاً من إعادة إنتاج الهولوكوست، بحقّ الفلسطيني في أرضه ولكن بأيدي أسلافٍ لضحية الهولوكوست انقلبوا إلى جلادين أسوأ من نازيي الرايخ الثالث؛ هو تنويع فاضح وسافر، وشائن وعشوائي وأدهى، لإرهاب دولة يستبدل ما سُمّي في الماضي بـ«الإرهاب الدولي» وفقد اليوم معظم دلالاته الفعلية والعيانية.
والعودة إلى أية موسوعة تاريخية مبسطة، سوف تسرد وقائع عن إرهاب الدولة الإسرائيلي يمكن أن تبدأ من عمليات التفجير في العاصمة العراقية بغداد، خلال 1950ـ1951 لتدجين الجالية اليهودية في العراق، وتحريضها على الهجرة إلى دولة الاحتلال؛ ولسوف تمرّ بـ«قضية لافون» التي انطوت خططها على نسف دور سينما ومكتبات ومراكز تعليمية مصرية وأمريكية وبريطانية، وإلصاق التهمة بالإخوان المسلمين؛ ولم تنتهِ خلال سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم عند التعاون الإسرائيلي العسكري والأمني مع نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا، ومع أنظمة دكتاتورية في السلفادور وغواتيمالا، فضلاً عن مساندة الغزو الأندونيسي في تيمور الشرقية. لكنّ هذه، وسواها أمثلة كثيرة، جرت على مستويات استخبارية اعتمد الكثير منها قاعدة التكتم أو التضليل أو التستر؛ وهي، استطراداً، تختلف عن نمط من إرهاب الدولة الصريح على شاكلة عملية أجهزة الـ»بيجر» في لبنان، حيث الدولة لا تجد حرجاً في نسبة الإرهاب إلى أجهزتها، بل به تتفاخر.
كذلك فإنّ العودة إلى قانون مكافحة الإرهاب، الذي وقّعه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون سنة 1996، يمكن أن تقود إلى إرهاب الدولة كما مارسته وتمارسه دولة الاحتلال، لأنّ سلسلة التعريفات تسير هكذا: 1) تعبير الإرهاب يصف العنف المقصود مسبقاً، والذي تحرّكه دوافع سياسية، ضدّ أهداف غير قتالية، على يد منظمات محلية أو شبه محلية، أو عن طريق عملاء سريين، وذلك بقصد التأثير في الرأي العام؛ و2) تعبير الإرهاب الدولي يعني الإرهاب الذي يصيب المواطنين أو الأراضي في أكثر من بلد واحد.؛ و3) تعبير المجموعة الإرهابية يفيد أية مجموعة رئيسية أو فرعية تمارس الإرهاب على نطاق محلي ودولي في آن معاً.
بذلك سوف يكون مشروعاً أن تندرج في أيّ من خانات الإرهاب الثلاث جميعُ أجهزة الاستخبارات الغربية التي نفّذت عمليات الإغتيال الفردي، وتدبير الإنقلابات العسكرية، وزعزعة الاستقرار الداخلي للدول والأمم؛ وإذا تصدر اللائحة جهازُ الموساد الإسرائيلي، فإنّ الزمالة الأولى في الصدارة يصحّ أن تُعقد لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، بوصفها «أمّ الوكالات» بلا منازع.
ومن نافل القول إنّ لا أحد من ساسة الدول الراعية لإرهاب الدولة سوف يقبل التشديد على أنّ الإرهاب يصعد ضمن ما يشبه الضرورة حين تجد المجموعة الأضعف أنها مضطرة إلى استخدام العنف ضد المجموعة الأقوى، في شروط من انعدام التكافؤ في موازين القوى. وأما حين تلجأ المجموعة الأقوى إلى استخدام المزيد من العنف ضد المجموعة الأضعف، فإنها تضيف إلى إرهاب الدولة الرسمي صفة القمع المطلق العاري.
ومن نيويورك 2001 إلى الدوحة 2025 تتكاثر، إذن، تنويعات 11/9 على جبهات إرهاب يحلّ الدولة محلّ الدولي؛ هذا الاخير الذي بدأ غائماً وغامضاً وغائباً عن مدلولاته على أرض الواقع، وهكذا يظلّ أغلب الظن.

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد