خريف فرنسا الحالك

mainThumb

12-09-2025 07:00 AM

اتجهت العيون بالأمس إلى الشارع الفرنسي. الشاشات ونشرات الأخبار بثّت على الهواء مباشرة مشاهد التظاهرات التي عمّت باريس وليون ومرسيليا: اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، محاولات لقطع الطرقات وخطوط القطارات، واعتقالات بالمئات.
بدت الصورة كما لو أنّ فرنسا تدخل أولى أيّام خريف صعب سيمتد لشهور على نسق أيّام «السترات الصفراء» وما تلاها من احتجاجات قانون التقاعد، لكن هذه المرّة على خلفية أزمة سياسية – اقتصادية تشير كل ملامحها إلى أنها أعمق وأخطر من كل ما مضى.
الأزمة التي تعاظمت تحت قبة البرلمان وأطاحت بحكومة فرانسوا بايرو قبل أن تكمل عامها الأول في الحكم، انتقلت إلى الشارع نتيجة عجز حكومات عهد الرئيس إيمانويل ماكرون المتعاقبة عن إدارة تراكم الدين العام (114% من الناتج المحلي ومرشح للارتفاع لحظياً)، واستحالة الوفاء بمعايير الملاءة المالية التي يضغط لفرضها الاتحاد الأوروبيّ على الدول الأعضاء، فيما كلفة خدمة الدين السنوي للجمهورية تتجاوز 80 مليار دولار أمريكي، أي 30 مرة حجم الموازنة الكلية للبنان.

من البرلمان إلى الشارع

مع هكذا تراكم، لم يعد بالإمكان إدارة استحقاق إقرار موازنة الدولة الفرنسية كخلاف حزبي عابر، وانفجرت كأزمة نظام سياسي واقتصادي كليّة لاسيما بعدما أنتجت الانتخابات المبكرة الأخيرة (العام الماضي) برلماناً معلقاً بلا أغلبية مستقرة تضمن أخذ توجه محدد للتعاطى مع مترتباتها.
وهكذا عندما طرح بايرو خطته التقشفية – لمحاولة توفير ما يعادل 50 مليار دولار أمريكي عبر إلغاء يومين من العطلات المدفوعة وتجميد بعض أوجه الإنفاق الاجتماعي – اعتقد أنّ البرلمان سيخضع تحت ضغط انعدام البدائل: إمّا تمرير الخطة أو مواجهة فوضى لا تعرف نهايتها. لكن المعارضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وجدت – كلا لأسبابه وحساباته المختلفة – أن الوقت قد حان لقلب الطاولة على ماكرون، فالتقت ولو تكتيكياً ومرحلياً لسحب الثقة من الحكومة وإسقاط بايرو.
وإذا كان لنا أن نقرأ المشاهد التي بثّتها الفضائيات بالأمس فإن الشارع – بنقاباته وتنظيماته العمالية وأحزابه اليسارية – لم يعد ينتظر حلول السياسيين، بل يتقدّم عليهم. والهتافات التي تردّدت في ساحات باريس كانت صريحة: «لن ندفع ثمن أزمتكم»، و»ماكرون رئيس الأغنياء».

ماكرون وسياسة الهروب إلى الأمام

في مواجهة هذا الانسداد لجأ إيمانويل ماكرون إلى ما يجيده: «الهروب إلى الأمام»، تماماً كما فعل مراراً منذ 2017 حين واجه الاستحقاقات بمقامرات جريئة لكنها مكلفة. استجابته لإسقاط بايرو كانت بتعيين سيباستيان لكرونو رئيساً جديداً للوزراء.
لقطات قصر الإليزيه التي بثتها القنوات أظهرت ماكرون في مراسم بروتوكولية باردة، بدا فيها لكرونو، الشاب البالغ 39 عاماً، أقرب إلى صورة مساعد للرئيس أكثر منه رجل دولة، وسارعت مارين لوبان – زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني – إلى وصفه بــ»آخر الرصاصات في جعبة الماكرونية»، بينما رأى بعض المعلّقين أنّه «رجل إطفاء» ستحرقه نار الأزمة سريعاً.
اختيار لكرونو ليس بلا منطق بالطبع: فهو الوزير الوحيد الذي بقي في جميع حكومات ماكرون منذ 2017، ويتمتع بثقة الرئيس المطلقة، ويجيد التفاوض، وله علاقات متشعّبة مع أطراف من اليمين واليسار. غير أنّ هذه المزايا قد تنقلب عبئاً، لأنه سيعامل كامتداد مباشر للرئيس، لا كخيار مستقل يمكن أن يفتح أفقاً جديداً.

ميزانية 2026: عقدة العقد

الجبل الذي ينبغي على لكرونو أن يتسلقه الآن هو ميزانية 2026، وسيجد سريعاً أنه يتعرض لإطلاق النار من الجميع. فالأسواق المالية والمفوضية الأوروبية تضغط لخفض العجز، ما يفرض إجراءات تقشف جديدة، والاشتراكيون يطالبون بضريبة ثروة لتوزين العدالة الاجتماعية المهتزة، والجمهوريون يريدون إصلاحات بنيوية إضافية في سوق العمل، أما النقابات، فتطلق بياناتها محذّرة من «عاصفة اجتماعية» إذا جرى المساس بمكتسبات العمال.
والصورة التي تنقلها نشرات الأخبار من الشوارع تقول إن أي محاولة لفرض خطة تقشفية جديدة ستقابل بتمرد واسع. ولعل تلك ستدخل في التاريخ كمفارقة يطلق عليها اسم معضلة لكرونو: كلما حاولت السلطة إرضاء الأسواق، خسرت الشارع، وكلما قدّمت تنازلات اجتماعية، خسرت ثقة رأس المال.

خيارات ماكرون الضيّقة

لن تتغير تركيبة البرلمان، ولن تقبل مكوناته التي تراهن على تعظيم مكاسبها من وراء الأزمة بميزانية بايرو، وإن تم تغيير اسمها إلى ميزانية لكرونو. ما يضع ماكرون أمام خيارات محددة، كلها تبدو خاسرة: فإما تمرير الميزانية عبر مساومات برلمانية، مع قبول تنازلات كبرى – كفرض ضريبة على الثروة مثلاً – وهو ما يتناقض كليّة مع فلسفته النيوليبرالية وما يمثله كـ»رئيس للأغنياء»، أو حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة ما قد يعني عملياً تسليم السلطة إلى اليمين المتطرف. وبالطبع يمكنه بغير ذلك الاستمرار في لعبة تدوير الأسماء بتعيين حكومات ضعيفة متتالية، لكن ذلك يعني استنزاف ما تبقى من شرعيته حتى نهاية ولايته في 2027 وما يستتبعه ذلك من تمديد لمفاعيل الأزمة. أما الاستقالة المبكرة التي تطرحها بعض أوساط اليسار والدعوة لانتخابات رئاسية جديدة كخيار وحيد لإنهاء حالة الشلل السياسي فتظل احتمالاً مستبعداً بالنظر إلى النرجسية المعروفة عن شخصية الرئيس العتيد.

أبعد من فرنسا: أزمة «الوسط الليبرالي» في الغرب

في باريس، قد يبدو المشهد فرنسياً بامتياز، ويتعلق بطبيعة بنية النظام السياسي الرئاسي الذي أسسه شارل ديغول بعد الحرب العالمية الثانية. لكن توسيع الرؤية يكشف عن أن ماكرون ليس وحده في هذا المأزق. فعلى الشاشات نرى ملامح أزمة أوسع تمسك بخناق الديمقراطيات الغربية. ألمانيا غارقة في ركود مقابل صعود صاروخي لشعبيّة حزب «البديل» اليميني المتطرف. وبريطانيا تواجه تآكلاً سريعاً لشعبية حكومة العمال الجديدة وتحدياً صريحاً من قوى أقصى اليمين وأقصى اليسار معاً ولا تحتاج الأمور سوى إلى فتيل يفجّر الأزمة في الشارع.
واليابان شهدت استقالة رئيس وزرائها، بسبب عجز حكومته عن إدارة التضخم ما سيفتح الباب لتحدي هيمنة الحزب الليبرالي الحاكم على السلطة طوال معظم السبعة عقود الماضية… والأمر شبيه في العديد من دول الغرب الأخرى التي تعاني من ذات الأعراض: «الوسط النيوليبرالي» الذي حكم لعقود يتآكل، مطحوناً بين يمين شعبوي ويسار اجتماعي متجدد. ولذلك فإن أزمة فرنسا ستكون محط أنظار كثيرين، كمختبر متقدم لقياس النتائج الممكنة لهذه الأزمة العصيّة.
ماكرون لعب ورقته الأخيرة بتعيين لكرونو، لكن الهروب إلى الأمام قد يؤجل الاستحقاق، ولا يلغيه. وما تنقله الشاشات من ساحات باريس هو تذكير أن لحظة الحساب تقترب، وأن عقداً اجتماعياً جديداً يوزّع أعباء الأزمة بعدالة نسبيّة لم يعد ترفاً، وبدونه فإن استقرار غرب «الوسط الليبرالي» لن يصمد طويلاً، وسيكون الزلزال.

٭ إعلامية وكاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد